رسالة الأستاذ جرجي زيدان للزيات (2- 2)
د. علي زين العابدين الحسيني
مرّ بنا الحديث أن الأستاذ أحمد حسن الزيات كان مدرساً لمادة اللغة العربية وأدبها بكلية الفرير بالخرنفش، إلا أنّ إدارتها ارتأت أن تزيد له حصة كل يوم بمدرسة الغرير الابتدائية بالفجالة، وفي المدرسة صبية تتراوح أعمارهم بين الثامنة والعاشرة ينفردون عن غيرهم بأنهم أرباب حركة مستمرة، فكان الأستاذ الزيات ينذرهم باللسان تارة، ويضيق أمره معهم مرات فيزجرهم باليد.
ومن بين الطلبة -كما وصفه الزيات- “صبيّ خفيفٌ لا يكاد يستقرّ على حال، ولا يستمرّ على وضع. لا يكتفي بالعبث في موضعه ولا بالحديث مع جاره، وإنما ينتقل من درج إلى درج، ويقوم من تلميذ إلى تلميذ، يأخذ من هذا … ويعطي ذاك … وفي حالي الأخذ والعطاء لابد من كلمة مسموعة أو حركة خشنة أو ضحكة مرتفعة”، وبعد طول مشاغبة تلقى ضربات من أستاذه، فكانت الرسالة التي أرسلها إليه الأستاذ جرجي زيدان.
وفي النظرة الأولية لهذه الرسالة التي كتبت بأدبٍ رفيعٍ، ووجهت من أديبٍ إلى أديبٍ يمكنني أن أستخلص أشياء مهمة منها:
الأول: هذه الرسالة من الرسائل التي تتناول الأغراض الشخصية، وهي من الكتابة النثرية التي تحمل في طياتها معاني كثيرة، وتكتب في مناسبات عديدة؛ كالتهاني، والتعازي، والمباركات، والتشوق، والعتاب، وهذا اللون من الرسائل لقوة تأثير وسائل التواصل الحديثة اختفى تماماً، ومع أن التواصل أصبح أسهل مما كان بكل يسر وسهولة إلا أن المعاني والمشاعر صارت أقل بكثير من سابقها، ولا زلت أتذكر وأنا صغير تلك الرسائل التي كان يحملها عامل البريد لنا في مناسبات مختلفة، وأحتفظ بكثيرٍ منها.
الثاني: تحمل رسالته العلاقة الحميمة المتأصلة بين المدرسة والبيت في سبيل النهوض بتعليم الطلاب، وهنا قد وصف جرجي زيدان الأطفال بأنهم عادة ما يبالغون، فليس كل ما ينقله الطالب صواباً كله، إلا أن واجبه كأب دفعه للسؤال بلطف، ولتنبيهه بأدب، فلا هو تجاوز حدود الأدب مع المعلم، ولا هو سكت عما قد يكون من أذى حاصل لابنه، وهذه القاعدة المشتركة في التعليم كان لها الفضل في إخراج أجيالٍ تحمل جانبين مهمين الأدب والتعليم.
الثالث: لم يكن الآباء فيما مضى بأيّ حال من الأحوال يُجرؤون أبناءهم على معلميهم، ورسالة الأستاذ جرجي تكشف نوعاً من الأخلاق الرفيعة، فقد أزال الحرج عن الزيات واعتذر عنه بأن ابنه ربما يبالغ فيما نقله، وهو ما يختلف تماماً عن الحالة الراهنة، حيث أصبح الطالب صادقاً مصدقاً عند أبيه، حتى لو حلف المعلم الأيمان المغلظة بأن ما ينقله الطالب ليس له واقع في الحقيقة، ولذا كان ولي الأمر دائماً ما ينحاز إلى المعلم ضد فلذات أكباده رغم شدة المعلمين فيما قبل.
الرابع: حينما خاطب جرجي زيدان الزيات حلّى خطابه بأرقى الكلمات وأفخم الأوصاف، فوصفه بأنه أستاذه وبينهما من فارق السن الكثير، فيعد زيدان أستاذاً للزيات، فقال: “أستاذي الفاضل”، ونسب ابنه شكري له أولاً، فقال: “ولدك وولدي”، وأبدى عذره عما قد يكون وقع من ولده، وأن كلام ولده ليس عنده الفصل في القضية، إذ الأطفال يبالغون فيما يتم نقله من المدرسة، وفي نفس الوقت أرشد الزيات إلى منهج فريد محبب في التربية والتعليم، وهو طريق الملاينة والحيلة في التعامل معهم للوصول بهم إلى أسمى الغايات.
الخامس: خَتَم رسالته بالتحية والإجلال للمعلم، ووصف نفسه بأنه مخلص له، وهذا الجو المتفاعل من ولي الأمر إلى المعلم هو ما تفتقده العملية التعليمية، فالكثير مع الأسف من أولياء الأمور ينظرون نظرة إلى المعلم على أنه موظف يتقاضى راتباً على عمله ليس إلاّ، وما دام كذلك فلا توجد حاجة لإظهار الشكر له أو الثناء عليه، شأنه شأن أي وظيفة من الوظائف، وهي من التربية الحديثة الدخيلة على مجتمعاتنا، ومهما بلغت قسوة المعلم على طلابه فإن الطالب يظل مديناً لهذا المعلم بالفضل والعرفان والجميل.
السادس: لم يكن الزيات متعنتاً، فليس الضرب لديه منهجاً، وإنما حالة عرضية قد يحتاج إليها في أضيق الحدود، ولذا كتب جواباً عن رسالة جرجي زيدان يقدم فيها شكره واعتذاره، وأرسلها مع البريد، ولم يكتف بذلك بل كتب مقالاً في جريدة “الهلال” بعد وفاة جرجي زيدان بسنوات عديدة حينما شرع في الكتابة في جريدة “الهلال”، فكانت أولى مقالاته في العدد العاشر، شهر أكتوبر سنة 1956م بعنوان: “أول ما عرفت جرجي زيدان”.
وبفضل مقاله وقفنا على رسالة الأستاذ جرجي زيدان الأدبية الفريدة، وقد ختم الزيات مقاله بقوله: “لذلك آثرت أن يكون أولّ ما أكتب للهلال تحية من القلب العروف أقدمها لذكراه، وباقة من الأدب الصدوق أنثرها على قبره”.