2024
Adsense
فعاليات وأنشطة النبأ

الأيام التي ترحل ، هل تلتفت لحالنا في غيابهم؟!..

كاذية بنت علي البيمانية

لا زلت أذكر تلك اللحظات وكأنها تقع الآن، وكأن السيناريو يُعاد أمامي، فلم قصير ذو الخمسة دقائق كان آخر لقاء به، قبلتي على جبينه…ابتسامته… نظراته التي كانت تلاحقني فترة تواجدي القصير معه، قد تكون ساعات بالتوقيت المتعارف عليه، لكنها كانت بالنسبة لي دقائق بل ثواني، كيف أصف هذا اللقاء، ومن أين أبدأ؟ كلماتي تنزل لتكتب بدموع الدم، هل يعقل أنني لن أراه بعد هذا؟!. كنت أظن أنني لن أفقده أبدا، لا يمكن أن يتركني، أنا حتى الآن لم أرد له ذرة من عطاياه- دينه عليَّ- ولا أقل من ذلك، أنا لم أُقدم له شيئا، ولم أستطع أن أبر به البر الذي يستحقه في ظني…
آه … أتذكر مواقفه، تضحياته، حتى عتابه الحاني، أذكر أنه جهزني لأبدأ مشواري في الدراسة لظروف مرضية ألمت بأمي أرقدها في المشفى، قام بربط ضفائر شعري، ولأنه لا يتقن هذا العمل حاكه مثل حياكة- سفة الحصير- قدم لي إفطاري، أمسكني حقيبتي، وأمسك بيدي ليوصلني إلى حافلة المدرسة، حيث قام برفعي من نافذة الحافلة نظراً لأنها كانت على وشك التحرك.
أتذكر ذلك اليوم الذي كنت مريضة فيه، حرارتي مشتعلة في ظلام الليل الدامس، أيقظته أمي مصدر الحنان ليسعفني، كان عمري حينها قرابة العشر سنوات أو الحادية عشر، لم يكن يمتلك سيارة ليوصلني إلى المشفى، لم يألُ جهداً في تخفيف معاناتي فحملني على كتفه، ومضى بي مسرعاً إلى المشفى سيراً على الأقدام، أي قلب حنون يمتلكه، أتذكر متابعته لي وإخواني، وحرصه على قراءة القرآن الكريم، وكان محباً للقراءة والتعلم. التحق بتعليم محو الأمية وأكمل للصف السادس الابتدائي، لكن حبه للقراءة جعلته مثقفا، فعندما كبرنا وكبر كان يحب كل يوم أن يقرأ له أحد منا كتاب، وكان يسعد إذا بادر أحدنا لفتح كتاب وأخذ يقرأ له، كان يصلح لنا أخطاءنا في القراءة، كان يناقشنا في بعض النقاط، كان إنساناً عصامياً منذ صغره، توفي أباه وهو في الثالثة عشر من عمره، تحمل مسؤولية أمه وإخوانه، لم تكن حياته مفروشة بالورود والياسمين، اجتهد وعمل وقاسى الصعاب ليؤسس حياته … كان وكان …
مضت الأيام سريعة، اتصلت به قبل يوم من رحيله، كان ذلك اليوم هو مساء يوم الأربعاء، كان صوته مبتهجاً، كان متحمسا، لم أسمع صوته بهذا الوضوح والحيوية منذ فترة، بادرني بالسؤال ألن تأتي هذا الأسبوع ؟! تعالي … أجبته بالتأكيد سوف أأتي كالعادة، أعاد عليَّ قوله مرة أخرى: تعالي !! لا أدري بالرغم من أني شعرت بتحسن حالته الصحية ومعنوياته المرتفعة، لكن كلماته أشعرتني بإحساس غريب يسري في داخلي ويتعمق في أعماق قلبي …
في اليوم التالي الذي صادف يوم الخميس التاسع والعشرون من شهر مارس لسنة ألفين وثمانية عشر، نهاية أسبوع العمل والذي كان يوماً مليئاً بالحركة والجهد، كنا ننهي تجهيزات لاستقبال وفد الجمهورية الأردنية الهاشمية الشقيقة ( فريق تمام العرب ) الذي سيزور المدرسة ليطّلِع على إنجازاتها ومشاريعها التي تخدم المشروع، حيث كنا من ضمن المدارس التي تمثل السلطنة في تلك الفترة، كان موعد استقباله بالمدرسة الأحد من الأسبوع الذي يليه، بقيت بالمدرسة للساعة الثانية ظهراً، جاءني خبر من أحد الأقرباء بأنه هناك من رأى أخي ناصر الغالي حفظه الله ورعاه وهو يركب سيارة إسعاف والسيارة متحركة بسرعة إلى مستشفى نزوى فهل هناك من خطب؟؟!! فعلاً وقع عليَّ الخبر كالصاعقة، لم أعرف ماذا يحدث ؟؟ ماذا أفعل ؟؟ أخذت أحاول الاتصال بإخوتي الواحد تلو الآخر لا مجيب ماذا يحدث ؟؟!! المعلمات يسألنني هل هناك من خطب ما يا أستاذة؟ بدأت ملامح وجهي تتغير، لا لا شيء … حاولت وحاولت إخفاء شعوري حتى أعطي معلماتي الأمان لننهي البروفات الأخيرة للتجهيزات، ولنتأكد أن كل شيء حسب المطلوب، فالكل اجتهد وعمل بروح الفريق الواحد ولا بد أن نبرز ثمرة الجهود المبذولة …
كنت أختلس لأعاود الاتصال حتى جاء الرد من أخي موسى العزير الذي أخذ يطمأنني بأن الوالد بخير، وأن حالته مستقرة ولا داعٍ للقلق، قد يكون أعطاني نوعا من الراحة المؤقتة، أنهيت العمل بسرعة وأخبرت الكادر الموجود ببعض التعليمات لأي ظرف طارئ يمنع تواجدي لاستقبال الوفد، وأنني أثق بهن جميعا، وخرجت مسرعة عائدة إلى مسقط لأجهز حقيبتي لأذهب لرؤية أبي والاطمئنان عليه، كانت طريق الرجوع للبلد طويلة لأول مرة أشعر بهذا الشعور، كنت أشعر بثقل يزداد ويزاد على كاهلي، شعرت بأن لون الدنيا أصفر، وكأنها تتوشح الكآبة، هدوء غريب قاتل، حاول زوجي تهدئة الجو، حاول مناقشتي في أمور منوعة ليجعلني أتكلم ويخفف عليَّ، وبين فترة وأخرى كان يجرى اتصالات لم أكن أركز مع من ومن يكلم، وفي آخر مكالمة له شعرت بيده تمسك يدي، أنتابني فزع لا يمكن وصفه، قال لي بصوت حاني أن أخي إسحاق حفظه الله يقول له: أنه لا داعٍ للذهاب إلى المستشفى، وأنه عليه أن يأخذني إلى بيت العائلة في بهلاء، قلت له: لماذا ؟؟! أنا أريد أن أجلس مع أبي، أوصلني إليه … مع إصراري قال لي: لله ما أعطى، ولله ما أخذ ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإنا لله وإنا له راجعون، الوالد في ذمة الله كوني قوية .. ماذا تقول ؟ أنا لم أره منذ أسبوع، أنا لم أودعه، لم أسمع كلماته الأخيرة، لم أستسمحه إن بدر مني أي تقصير في حقه… أجهشت بالبكاء، أسودِّت الدنيا في عينيَّ، لا اعتراض على قضاء الله، إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا أبي لمحزونون، كنت السند.. كنت الأمان كنت وكنت …
لم أكن أتصور هذا اليوم الذي سوف أفتقده فيه، إنها مشاعر الفطرة التي فطرنا الله عليها وليس اعتراض فكلنا سائرون على نفس المصير.
رحل أبي ولن يعود، لن نراه مرة أخرى في هذه الدنيا الفانية … لكن أملنا في الله كبير في لقائه في جنات النعيم في لقاء لا فراق بعده، وسيظل موجودا بكلماته الرنانة التي أحسن غرسها في عقولنا وقلوبنا لتكون شعاراً لنا توجهننا في مسارات حياتنا، سيكون موجودا في إخوتي وأخواتي في جمعهم كبناء صامد متماسك كالجبل الشامخ، التي تمكن من تثبيت أساسها بدعائم قوية لا تؤثر فيها العواصف ولا الأعاصير، يجمله وجود والدتنا الحبيبة أبقاها الله لنا ذخرا، فقد أصبحت لنا الأب والأم في آن واحد حضنها يجمعنا ويطمئننا إذا ما ضاقت بنا الدنيا.
فيا من تملكون آباء وأمهات لا تفرطوا في أي لحظة يمكنكم أن تكونوا بقربهم، فهم طريق الجنان، وسبيل التوفيق في الدنيا والآخرة، وهم السبيل لزيادة العمر والرزق، قال عليه أفضل الصلاة والتسليم: (من سره أن يُمد له عمره، ويزاد في رزقه فليبرّ والديه وليصل رحمه). رواه الترمذي، في الترغيب والترهيب، عن أنس بن مالك، الصفحة أو الرقم:3/293. سبيل لبر الأبناء، لتفريج الكرب والهموم وغفران الذنوب.
لا تُسوِّفوا ببرهم، لا تتأخروا في تقديم أي شيء يسعدهم، فهذا دين – كما تدين تدان – اصنعوا زادكم لكبركم، كونوا قدوة لأبنائكم قدموا لهم دروسا في بر الوالدين، قال الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). سورة العنكبوت، الآية(8) ، وقال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: (رغِم أنفُ رجُلٍ ذُكِرْتُ عندَه فلَمْ يُصَلِّ علَيَّ، ورغِم أنفُ رجُلٍ أدرَك أبوَيْهِ عندَ الكِبَرِ فلَمْ يُدخِلاه الجنَّةَ، ورغِم أنفُ رجُلٍ دخَل عليه شهرُ رمضانَ ثمَّ انسلَخ قبْلَ أنْ يُغفَرَ له) رواه ابن حبان، في صحيح ابن حبان، عن أبي هريرة، الصفحة أو الرقم: 908.
كان عليّ بن الحسين باراً بأمه كثيراً، بالرّغم من ذلك لم يكن يشاركها الأكل في إناءٍ واحد، فسألوه: إنّك كثير البرّ بأّمك ومع هذا لا نراك تأكل معها من نفس الإناء؟ أجاب: أخاف أن آخذ شيء تكون عينها سبقت إليه، فأصبح عاقّاً.
حفظ الله لكم آباءكم ورزقكم برهم، فلا يشعر بنعمتهم إلا من يفقدهم أو يفقد أحدهم .
{وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24}- سورة الاسراء.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights