عامٌ على الرحيل..
هلال بن حميد المقبالي
في مثل هذا اليوم الحادي عشر من يناير استيقظت عُمان على خبرٍ أذهل الجميع و انقسموا بين مصدق ومكذب، ولكن كان عند الإعلام الخبر اليقين، بسماعهم الخبر المحزن والذي انفطرت له القلوب لحظة سماعه، تقاذفت الدموع من العيون، وصرخات الوجع تعلو أنين الفقد، بعدها خيّم سكونٌ عامّ على البلاد، بدت الشوارع فارغة إلا من الأمن (الجيش، والشرطة) والمواطنين الذين اسطفّوا على جنبات الطريق لمشاهدة الموكب الميمون الذي تعوّدوا عليه خلال السنوات الخمسين الماضية، لكنّ هذا الموكب ليس كباقي المواكب، إنه موكب الوداع الأخير، مرّ الموكب على سكون البلاد وبكاء السماء و دعوات المواطنين، مرّ بطيئًا جداً على عكس عادته، سالكاً مشوار اللاعودة من قصر البركة إلى جامع السلطان قابوس الأكبر.
عامٌ على رحيل الأب السلطان وما زال الشعب يعتصره ألم الفراق، وتعصف به المحن، وما زالت عُمان الأرض من صدمتها لم تفق، فقد كان للسلطان الراحل “قابوس” طيّب الله ثراه موضع قدمٍ في أجزاء هذه الأرض الطيبة، والباني لها.
10 يناير 2020 م كان الوداع الأبدي بين الشعب والسلطان، واللذان شكّلا تحديًا ثنائيًا لبناء عُمان والخروج بها من العزلة التي كانت تعيشها، وإنهاء الانقسامات الداخلية، و التمرّدات المسلحة، فكان التحدّي صعبًا، و لكن كان للشعب كلمته أيضاً فلمس في قائدة الجدية في الأمر والتفّ حوله ليشكّل هذا السلطان تحالفاً مع الشعب لإنهاء كل ما يضرّ بأمن البلاد وشعبها، ويؤثر أو يمنع خطوات التقدم والازدهار للوطن والمواطن فكان ذلك، توحدت عُمان وانفرجت الأزمة ونجح التحدي بين الأرض والسلطان وشعبه فطغى الأمن أركان البلاد، وساد الأمان والهدوء، وتوحدت النفوس وتعايشت بروح التسامح والتعاون، ونجح التحالف بين الشعب و السلطان في القضاء على كل ما يضر تقدم البلد أيًا كان شكله وأهدافه، فصار هذا التحالف أساسًا للبناء والتعمير، وإظهار عمان على خارطة العالم كدولة وُلدت من جديد، بزغ نورها المشرق النيّر الذي أضحى نوره في سماء الأكوان، بعد أن كانت دولةً قد نُسيت في حقبةٍ من حقب التاريخ، وبعد أن كانت أمبراطوريةً تسطرت كتب التاريخ، وتصدرت الحكايات الأسطورية العالمية، ويُشار على آثارها الظاهرة على الأرض الباقية الخالدة بإشارة الفخر والاعتزاز، غُيّبت لفترة لتعود من جديد وتصارع للوقوف على ذاتها مجابهةً كل التحديات التي تصادفها.
خمسون عاماً، التفَّ الشعب حول جلالته رحمة الله عليه، يوقدون بفكره النير ويستمدون القوة من رؤيتهِ للمستقبل، مشمرين سواعدهم مع ساعديه في بناء عمان، ورفعة شأنها، مستلهمين بمقولة جلالتهُ طيب الله ثراه: “إن رُقيّ الأمم ليس في علوّ مبانيها، و لا في وفرة ثرواتها، إنما رُقيّها يستمد من قوة الإيمان بالله ومكارم الأخلاق وحب الوطن”.
إن حب هذا الأب القائد السلطان الراحل انغرس في قلوب كل أبناء الوطن والمقيمين فلا تكاد تسأل أحداً عنه إلا و يذرف الدمع مع الترحم عليه، ثم يبدأ بالحديث عن أعماله وإنجازاته، التي هي ظاهرة وبارزة للجميع.
ومن لا يعشق هذا القائد الأب، الذين شعروا أكثر بفقده هم الأجيال التي عاصرت عُمان قبل توليه الحكم فهم أكثر من شعروا بالفرق الكبير ولمسوا ما قبل العام ألف وتسعمائة وسبعون و بين ما بعده من السنوات، حيث تجد هذا الشعور حاضراً عند الجميع عندما توجّه لهم سؤالاً كيف كانت عُمان قبل حكم السلطان قابوس، لتنهال عليه القصص المؤلمة التي عاشوها وعاصروها وتعايشوا معها، وتختم هذه القصص بعبارات الحمد والشكر لله، والثناء والترحم للسلطان الراحل، و يتخللها هذه العبارة من باب النصح”: احمدوا ربكم واشكروه جيتوا في هذا الزمن، زمن السلطان قابوس، وإلا كنتم بتموتوا جوع”.
كان حلم الأب الراحل السلطان قابوس أن تصبح عُمان بلداً عصرياً في مستوى البلدان العربية الراقية، و اللحاق بركب الحضارة، والإمساك بالقرن العشرين، و أن يحقق لعمان ما فاتها طوال السنين الماضية، لتأخذ مكانها بين الأمم، وتحقيق هذا الحلم ليس بالعملية السهلة، فقد كانت خمسون عاماً قضاها رحمة الله عليه، ليحقق هذا الحلم، فبنى عمان مكانةً وتطوراً وتنميةً، بناها بنهجٍ متّزن مدروس، وأُسس حكيمة وقّادةٌ، بناها بخطىً واثفةً متينةً صلبة؛ لذلك هي ثابتةٌ بمبادئها وقيمها، مزدهرة بعراقتها، معتقداً جلالته رحمة الله عليه أن ما بني على ثقةٍ ووعي وثبات سيظل شامخاً خالداً و منيراً لسنوات، مؤكداً جلالته طيب الله ثراه خلال لقاء صحفي بتاريخ 26 يناير 1974م لجريدة السياسة اللبنانية قائلاً : “عندما نبدأ ببناء بلد كعُمان، لا بدّ من وجود طموح، وإن العزلة التي كان يعيشها الشعب هنا كانت قاسية ومريرة، إنني أطمح لتحقيق الكثير، ولذلك مهما فعلت ومهما حققت فلن أكون راضياً ولكنني مرتاح”، فليس المهم ما يقوله العالم عنا، ولكن المهم أننا سائرون على الطريق الصحيح السليم، و إنه بالطبع طريق طويل وشاق، و المواطن يجب أن يشعر وأن يلمس التقدم، وأظن بأن المواطن في عُمان بدأ يشعر، وبدأ يلمس المشاريع التي بدأنا بها هنا؛ لهذا السبب أشعر “بالارتياح”.
كلنا كان يذكر كيف كانت عمان، قبل حكم جلالته رحمه الله، وكيف أصبحت.
رحل جلالة السلطان قابوس بعد أن أوفى بما وعد، وأنجز ما خطط له، ولكن رحيله أوجد لنا ألماً كبيراً، وحزناً عظيماً يخيم على عمان وشعبها وللعالم أجمع، ولكن ستبقى سيرته الطاهرة في قلوب الشعب نبضاً، وفي أجسادهم روحاً، وفي فكرهم ذكرى، و سيبقى حبه واسمه تلهج به الألسن وتبتهج به النفوس.