الرحلة الشاقة و الرحيل الهادئ
خميس بن محسن بن سالم البادي
قال الله تعالى:-
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ{26} وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ {27}}- صدق الله العظيم- سورة الرحمن…
نعم لقد رحل إلى جوار ربه لكن ضئضئه النبيل وحرصه النافع للبلاد والعباد النابع من قلبه ناصع السريرة والصفاء والنقاء جعلاه يعهد بقيادة المسيرة لتواصل نهضتها المباركة لمن توسم فيه الصفات والقدرة اللتين تؤهلانه لذلك…
حال الحول الميلادي فهلّ عائداً باب العام (شهر يناير)، عاد بذكراه المترسخة في ذاكرة كل عُماني، تلكم الذكرى المؤلمة الحزينة لرحيل رجل الخير قابوس السلام، نعم ترجل الفارس الهمام عن صهوة جواده، حيث فاضت الروح الطاهرة إلى بارئها يوم(١٠ / ١ / ٢٠٢٠م) فتوقف النفَس في أوصال الجسد الذي أنهكه الوصب وسني العمر، فرحل عن الدنيا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد- رحمه الله و أكرم مثواه وجعل الجنة مأواه-، رحل من دار الفناء والزوال إلى دار البقاء والخلود. تقبله الله تعالى عند أعلى عليين وجزاه الله عنا خير الجزاء.
نعم لقد رحل لكن ضئضئه النبيل وتعلّقه بعُمان وأبنائها جعلاه يعهد بمواصلة الرحلة التي بدأ-رحمه الله تعالى- نهضتها السامية الحديثة المباركة إلى خلفه الأمين جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- الذي توسم فيه الصفات والقدرة اللتين تؤهلانه لذلك…
إننا نعلم بالرحلة الشاقة التي خطا أولى خطواتها المغفور له بإذن الله تعالى والتي شهد تفاصيلها البعض، وعلمه البعض الآخر من مصادر مختلفة متعلقة بمشاق بداية تلكم الرحلة السامية المباركة الميمونة التي بدأها السلطان الراحل قبل خمسون عاماً مضت، حيث التمرد قائم على أوجه في الجزء الجنوبي من البلاد وانقسامات بين مختلف القبائل في أرجاء متباينة هنا وهناك يصاحبها اقتتال على توافه الأمور، وأمية وعللٌ وأسقام وغربة وشتات للعديد من أبناء الوطن هرباً من معيشة ضنكى في الداخل، ودولة من غير مؤسسات أو خدمات كانت ليست كما هي اليوم ولله الحمد والثناء، ورحم الله السلطان الراحل، حيث بدأ المغفور له بإذن الله تعالى رحلته الوطنية للنهضة العمانية الجديدة بالحكمة والنظر الثاقب والحنكة من المربع الأول فكانت فعلاً رحلةٌ شاقّة.
وتهل علينا اليوم ذكرى ذلك الرحيل المتواضع والهادئ لقامة بحجم جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد- رحمه الله تعالى-، الرجل الذي صنع له التاريخ مكانة مرموقة ليس في محيطه القريب فقط بل على الكرة الأرضية قاطبة، بدليل ما يجول في الذاكرة في ذلكم اليوم للرحيل المؤلم علينا، وذلك بما شهده العالم أجمع من ألم العمانيين لفاجعة الفراق ومشاهد الوداع الهادئة للسلطان الراحل التي ابتغاها رحمه الله أن تكون مراسم تشييع مقتصرة على أبناء هذا الوطن العزيز لما يكنه لهم من محبة خالصة، و يقينه المطلق بمبادلته الشعور والأحاسيس ذاتها من قبل أبنائه البررة، ليتولوا منفردين قيامهم بواجب مراسم التشييع لتكون بذلكم المستوى من الهدوء و عدم الزخم رغم عظمة المصاب في نفوسهم، فمن هو السلطان الراحل الذي ملك قلوب ملايين البشر في الداخل و الخارج…
السلطان الراحل رحمه الله تعالى أعاد إخراج عُمان من غياهب الظلام والنسيان والجهل فقضى على التمرد ولــمّ شمل شتات العمانيين ووحّد صفهم بالتعايش السلمي بينهم بعيداً عن الطائفية والمذهبية أو تغليب قبيلة على أخرى فجعلهم صنوانٌ في أصل واحد، وبنى أركان وأساسات الدولة وسنّ قوانينها وسخّر خيراتها لإعمارها ورفعة شأن مواطنيها ورغد عيشهم، ونقلها إلى مصاف الدول في مختلف بقاع العالم معيداً هيبتها التي كانت عليها منذ ما مضى من حقب زمنية فاتت، في الوقت الذي حرص فيه على المحافظة على عادات وتقاليد المجتمع العماني، بل وحث على ذلك وشدد عليه مع عدم التفريط أيضاً في أصالة وحضارة وتاريخ عُمان عبر عصورها الماضية،، قابوس السلطان الراحل الذي يعرف قدره و مكانته من عاشوا من العمانيين حياة ما قبل قابوس من الذين أذاقتهم ظروف الحياة مرارتها- من الغربة، و ضنك العيش، وقسوة البيئة والمجتمع الذي كان البقاء فيه للأقوى،، حيث بقابوس الإنسان جاء المخاض للبلاد عامة من جنوبها فتولّد الأمل بحياة أفضل وعد بها الراحل رحمه الله،، فأوفى الوعد بدءاً بدعوته لكل أبناء عُمان في المساعدة للعيش لحياةٍ ومستقبلٍ مشرقين لغدٍ أفضل وهو ما كان وتحقق فعلاً،،
قابوس الذي قُبَيْل حكمه وعنده وبعده وُلد جيلاً من العمانيين لم يعوا من الظروف والمعاناة وبداية تنظيم مؤسسات الدولة شيئاً، بل ببلوغهم سن المدرسة وجدوا أنفسهم على مقاعد الدراسة بين جدرانٍ أغلبها من سعف وجريد النخيل وخيامٍ من القماش وحتى تحت ظلال الشجر، وهو الهم الأول الذي كان يشغل السلطان الراحل في بداية حكمه للبلد،، ليقينه المطلق أن التعليم هو أساس التنمية وأن المواطن العماني هو غايتها في ذلك، حيث وجد ذلكم الجيل ذاته وهم ينشدون سلام وطنهم كل صباح ويختموه بـ(يعيش جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم)، لينتظم بعد ذلك الطلبة على مقاعد غرف الدراسة حيث يفتح كل منهم كتابه لتقابله صورة قائده الذي هيّأ له تلك الفرصة لينهل من العلم والمعرفة وفق ما تسمح ظروفه وما يمكنه نيله من ذلك، وعند الاستراحة الدراسية يدس البعض منهم يده في جيب دشداشته أو معطفه يخرج منه مصروفه المتواضع في تلكم الحقبة من بداية عصر النهضة ليبتاع له به وجبة من مقصف المدرسة بما لديه من مال طبع عليه صورة السلطان الراحل،، إذاً نما هذا الجيل على هذا النمط والنهج، في وقت لم تُهيّأ له بعد كامل متطلبات حياته في عموم البلاد لاسيما سكان القرى والبلدات والأرياف، ولكن دافعهم للعلم والمعرفة بتشجيع القائد الراحل لهم ووقوفه على ذلك شخصياً كان حافزاً مشجّعاً نحو التقدم ونيل مراتب متقدمة من التعليم الدراسي، ولتترسخ في نفوسهم مكانة السلطان الشاب حينها الذي مضت به السنين مع هذا الجيل،، ليأتي بعد ذلك جيلاً وقد حظيت البلاد بتنمية مختلفة وتطوّر مضطرد بقيادة جلالته رحمه الله تعالى، استقى هذا الجيل من سابقه عمن يكون قابوس، وهلمّ جرا،، حتى صار كل عماني يعرف قدر ومكانة قابوس لديه.. لأن خلقه وحسن تعامله رحمة الله تعالى عليه كسبت قلوب ليس العمانيين فحسب بل حتى من غيرهم،، قابوس الذي كان يجوب فيافي وأودية كافة ربوع عُمان يتلمس حاجة الوطن والمواطن من خلال جولاته السنوية في الولايات،، قابوس الذي اعتاد بصوته الرخيم المميز أن ينادي مواطنيه من خلال خطاباته الدورية في المناسبات الوطنية المختلفة بـ(أيها المواطنين الأعزاء- يا أبناء عُمان الأوفياء) حيث كان يعِدُهم رحمه الله تعالى بما يبهجهم ويفرحهم من خلال توجيهاته وقراراته السامية بإيجاد عدداً من الخدمات الوطنية المختلفة لهم و لعُمان على السواء.
قابوس الذي عابه البعض في ذاته فعفى عنهم رغم وضوح التجريم القانوني للمعيب في ذات جلالته،، قابوس الذي عفى عن البعض ممن سوّلت لهم أنفسهم أن يخطئوا الخطأ الجسيم في حق وطنهم وصل بعض هذه الأخطاء إلى الخيانة السياسية والأمنية وهو فقط من يملك قرار وقف أو تنفيذ ما أقرّه القضاء بحقهم من عقوبات، و بذلك تأبى طيبة قلبه الحاني كأب للجميع إلا أن يتدخل في ما يملك من صلاحيات أبوية سامية،، حيث إما الإعفاء الكامل من العقوبة أو تخفيضها،، قابوس الذي لم يحبذ عقوبة الإعدام قط في حق المواطن و غير المواطن متى ما وجد إلى ذلك سبيلا، رغم إجازتها وفقاً للشرع و المشرّع،، كل ذلك من منطلق منهجه وقناعته الساميين بأن الرحمة فوق القانون،، قابوس الذي سعى للسلام مع مختلف دول العالم و أقام علاقات دبلوماسية مع الكثير منها بما فيها من كانت بالأمس داعية حرب مع السلطنة لأتباعهم الذين اندحروا عن تراب الوطن بتوفيق وفضل من الله تعالى ثم العزم السامي للسلطان الراحل على تحقيق النصر،، قابوس الذي انتهج منهج النأي بالبلاد و الشعب عن كل ما ينغص عليهم الأمن و السلام والطمأنينة سواء مع دول الجوار أو غيرها، و التوجه فقط نحو كل ما من شأنه رفعة قدر عُمان و أبنائها بين الأمم،، قابوس الذي لم تتلوّث يداه بدم إنسان أكان ذلك في الخارج أم الداخل و أياً كان وضعه نحو السلطنة أو الآخرين،، قابوس الذي رام أن تكون كل الأقطار على الكرة الأرضية صديقةً لعُمان،، عُمان الخير و السلام و المحبة،، قابوس الذي أبهر الجميع حتى و هو في أزمته الصحية حيث كان حريصاً على عُمان و شعبها فأمّنهما بوصية مغلّفة تفتح بعد مماته، و هو ما حدث فعلاً،، قابوس الذي أوصى برمزية جنازته التي اقتصرت على العمانيين رغبةً منه بعدم تكبيد الآخرين عناء السفر العاجل من جهة، و من جهة أخرى علمه التام بولاء مواطنيه له و رغبتهم الصادقة الأكيدة للقيام بهذه المهمة دون سواهم نحو جثمانه الطاهر و مراسم الدفن،، أكرم الله مثواه،، قابوس الذي تجلّى عند مماته كم التعازي التي هلّت من أصقاع العالم إلى الشعب العماني قاطبةً.
لقد تباينت تلكم التعازي ما بين رؤساء الدول من جهة وحكوماتها من جهة أخرى وشعوبهم من جهة ثالثة،، قابوس الذي صلّت عليه يومها كل بلده عمانية صلاة الغائب و كل ولاية من ولايات عُمان أقامت عزاءً لوفاته،، قابوس الذي اكتظت مقبرته بالعمانيين و المقيمين للدعاء له منذ اليوم الأول من مواراته الثرى،، قابوس الذي لأجل مماته نكّست دولاً بيارقها بعضها للمرة الأولى تفعل ذلك بجعل أعلامها ترفرف من منتصف سواريها بل وأعلن بعضها الحداد لذلك للمرة الأولى أيضاً، لأن الراحل هنا هو قابوس،، ذلكم هو قابوس الذي لن ولن ينساه العمانيين، إنه السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور آل سعيد،، رحمه الله وآجره وأكرم مثواه و جعل الجنة مأواه.
ولقد تكشّفت للآخرين وقائع أظنها لم تكن في حسبانهم آمل أن يأخذونها عِبَر لمقبل أيامهم، وحين نقول أننا أعطينا درساً في التعاضد والتلاحم والتآزر كما هي عادة العمانيين ذو النسيج الواحد المتجانس المتماسك والملتف حول نفسه وقيادته كصنوان لا يفترق، وذلك من خلال مواقف سابقة فإننا بذلك لا نكيل المديح والثناء لأنفسنا بقدر ما أثبته الواقع وتحدث عنه الآخرين، فلنا أخطاء وعيوب ولا نزكي على الله أحداً، كما كان للرحيل الهادئ دروس مستفادة أيضاً تجلت أمام العالم أجمع، وهو السلطان الذي يكن له الكثير من الشعوب التقدير و الاحترام فكانت كما رأينا جميعاً، ليأتي الدرس الثالث وهو كما أشرنا سلفاً عديد البشر الذين توافدوا أفراداً وجماعات من مختلف أصقاع الأرض لتقديم واجب العزاء في وفاة السلطان رحمه الله تعالى، صاحبه تنكيس الأعلام في الدول الشقيقة والصديقة وحتى بعضها ينكس أعلامه لأول مرة لزعيم عربي وكذلك بعض المنظمات والهيئات التي سارت على نهج هذه الدول هذا غير وقفات الصمت والتأبين التي أداها حتى من غير المنتمين للإسلام عند أدائهم أي من أعمالهم الرسمية.
إذاً ليعلم من يجهل أو يتجاهل معنى السلام وسبل العيش لإعمار الأرض في صمت وأناة، أن هذا الزخم الذي واكب ذلك المصاب برحيل السلطان لم يأتِ مجاملةً للشعب العماني بقدر ما هو ترجمة لغرس طيّب مدته نصف قرن من الزمان، زرعه السلطان قابوس بن سعيد المعظم- رحمه الله- الذي أخذ ينمّيه على مدى تلكم المدة بمعاونة أبناء عُمان جميعاً، حتى كان ما تبيّن لنا عند رحيله حيث الحصاد النفيس، فذلكم دليل جليّْ على ذلك فأهلاً بمن يقبل حقيقته وهدى الله الممتعض الذي يعتبر ما رأته عيناه غيضاً يتجرعه.
ولتتواصل مسيرة الغرس بإذن الله تعالى بذات النهج السامي وفقاً لرغبته ورؤيته الثاقبة رحمه الله تعالى، لتمضي بنا قافلة الخير والنماء بقيادة قائد المسيرة المتجددة جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم- حفظه الله ورعاه و سدد على طريق الحق والخير خطاه-لتكون عُمان كما نريدها جميعاً أن تكون دوما في مصاف الدول الراقية بشعبها وسياستها وتعاملها مع الآخر.