تحتفل صحيفة النبأ الإلكترونية بالسنة السادسة لتأسيسها
Adsense
أخبار محليةقصص وروايات

بوح سجين (قصة من الواقع)

راشد بن حميد الجهوري

ألقت مشاعر الانتظار الطويل، وهواجس فقدان الحرية، وتمزق قائمة الطموحات المستقبلية، والصورة الذهنية للقضبان الحديدية الكئيبة بظلالها على مخيلة ذلك الشاب العماني وهو في قاعة المحكمة عندما سمع من لسان القاضي نطق الحكم في حقه: (السجن عشر سنوات)، فدارت به الدنيا، ولم تهدأ نفسه حتى سحبه أحد أفراد الشرطة لينتبه إلى الحقيقة المرة التي سيواجهها طيلة عقد من الزمان، ثم سيواجه آثارها بعد ذلك في عيون الناس ووجوههم.

مرت على هذا الشاب أيام طويلة من الملل، وأخرى من التشاؤم، وثالثة في عزلة مع نفسه، ولم يجد ملاذا من ذلك إلا أن يصنع بعض الحوارات مع بعض الأشخاص من حوله، وانجذب كثيرا إلى ذلك الكهل ذو السحنة الأسيوية، والقادم من أرخبيل الملايو، لقد رأى فيه السماحة والبشاشة، وبادله الشعور نفسه، وبدأت أفكار الشاب تتجدد مع الأيام، وبدأ يغرس في نفسه بعض معاني الأمل.

وبعد حول كامل من الصحبة بينهما أتت ساعة الفراق، وجاء البشير يعلن ساعة الإفراج عن ذلك الكهل الماليزي، ويخبره بقرار إعادته إلى بلده، فكان الوداع بينهما مصبوغا بقيمة التواصي بالحق والصبر، وعاد الشاب إلى الفراغ السابق الذي كان يعيشه، ولكنه قرر أن يحفظ عهد الصحبة، وأن يبقي ولو القليل من ذكريات ذلك الجليس الصالح، وبدأت مشاعر الطمأنينة بذكر الله تسري في نفسه فوجد لذة وأنسا لم يطعمه من قبل.

وعودا على بدء فروايته حول قضيته تقول أنه سجن بسبب استخدام صديقه لسيارته في تهريب مواد ممنوعة، وكانت تهمته المشاركة في الإتجار بهذه المواد، وكانت المقارنة حاضرة في ذهنه بين الجليس السوء والجليس الصالح، وهكذا هي الحياة مدرسة يتعلم منها العاقل الكثير من الدروس والعبر، فكان قراره الحاسم من تلك اللحظة أن لا يصاحب إلا المؤمن الصالح الذي يثق في سيرته وأخلاقه.

وجاء العام الأخير من مدة الحكم لتلوح بشائر الحرية المرتقبة أمام ناظريه، وفي أحد أيام ذلك العام تساقطت من لحيته الخفيفة شعرات بيضاء فأخذ يقلبها في يده ويتأملها بصمت، ولسان حاله: ما أصعب بعض التجارب عندما تسرع في ظهور المشيب!

ثم جاءت اللحظة المنتظرة التي تشبه الحلم الجميل، وفتح عينيه على تلك الأشجار في حديقة منزل العائلة، وكأنها تعاتبه على تقصيره في حقها، فقد كان يعتني بها ويسقيها، وتأمل في نخلة الخلاص التي عهدها بطول قامته، وهي الآن تتجاوز سقف البيت، وارتفع بصره جهة الأعلى فرأى منارة المسجد وكأنها تدعوه إلى الرحاب الطاهرة حيث العبادة والخشوع لله، وفتح صفحة جديد مع الله.

ولم يلبث أن بحث عن عمل شريف، حتى وفقه الله في وظيفة تناسبه، ثم بدأ في مشروعه الذي تأخر كثيرا، ألا وهو مشروع الزواج، فبدأت رحلته في البحث عن زوجة تملأ قلبه بالحب وحياته بالسعادة، وتكررت محاولاته في ذلك، ولكنه وجد الأبواب مسدودة أمامه، والسبب أنه خارج من السجن، فكان أمام ثقافة مجتمع لا يعرف معنى العفو أو الثقة بسجين، وكأنه سجن آخر ابتلاه الله به.

وجاء القرار بالزواج من خارج البلد، وأتبعه بالحصول على تصريح يسمح له بذلك من الجهات المختصة نظرا لظروفه الصعبة، وبدأت تتوارد على ذهنه بعض البلدان التي يمكن أن تكون موطن حبيبته القادمة، فإلى أين كانت تشير بوصلة القلب؟!

وفي لحظة من لحظات الهدوء يتذكر صاحبه في السجن، ذلك الكهل الماليزي الذي فارقه منذ عدة سنوات، وأخذ يبحث في أوراقه عن رقم هاتفه فوجده بعد طول بحث، وأسرع بالاتصال به، وأخبره بقصته ثم…

جاءت الأفراح ترفرف من أرخبيل الملايو على الطيران العماني حاملة العروسين: السجين المهاجر وبنت صاحبه في السجن، وانكشف الغمام عن زوجة صالحة ترسم لزوجها خارطة طريق نحو حياة جديدة عامرة بالإيمان والبركة.

وبعد ثمان سنوات من هذا الزواج الميمون، ومن هذا التوفيق الذي كتبه الله لهذا السجين كان ابنهما يدخل عامه السابع، وهو يحفظ القرآن الكريم، إنها الثمار اليانعة التي سقتها شجرة التواصي بالحق والصبر.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights