مقال : شكرًا .. لأهالي الصعراني
سيف المعمري
لم يستسلم الإنسان العُماني لتحديات الطبيعة وتبايُن تضاريسها؛ فقام بدوره الحضاري المنشود، واستطاع تجاوز حدود الزمان والمكان، ليخلد في سجل الذاكرة البشرية إرثًا إنسانيًّا فريدًا من نوعه؛ فعمر الأرض وزرع بذور الخير حيثما حل وارتحل، وبرهن على تفوقه الحضاري على مر العصور، ليكون ذلك دافعا للأجيال البشرية جيلًا بعد جيل؛ لشحذ الهمم وتجديد الطاقات وبناء المنجزات.
ولا تزال قصص شق وتشييد الأفلاج مضمارًا رحبًا للدارسين لبيان الدور الحضاري الذي أفاد بها إنسان عُمان الحضارة البشرية على مرِّ العصور، وما تسجيل 5 أفلاج عُمانية في قائمة التراث العالمي المادي في منظمة اليونيسكو إلا اعترافا ناصعًا من المنظمة الدولية بالدور البطولي الذي تفاني فيها العُمانيون على مر العصور لإعمار الأرض وزراعتها، واحتضان الحضارات البشرية، ومد جسور التواصل والوئام.
ولقد شمَّر أهالي ولاية البريمي عن سواعد الجد والعمل للتعريف بمنجزات أسلافهم، فقد أعادوا الحياة لفلج الصعراني بعد انقطاع دام لأكثر من خمسة عشر عامًا، وليست المرة الأولى التي يتم فيها إعادة المياه لمجاريها في أفلاجنا المتوقفة، فقد سبق إعادة الحياة مرة أخرى إلى عدد من الأفلاج العُمانية بعد انقطاعات لفترات زمنية مختلفة تجاوزت في بعضها العقدين من الزمن.
لكنَّ ما ميز عودة الحياة لفلج الصعراني تلك الوثبة الجماعية من أهالي الولاية كبارهم وصغارهم، رجالهم ونسائهم، بالنفس والمال والمؤازرة وبكل السبل الممكنة؛ فانشغل الجميع بغاية واحدة، وبهدف نبيل سام، وهو إعادة الحياة للفلج، ليرتوي منه الظمآن، وليرسموا به لوحة جمالية أخاذة في بساتين الولاية وحدائقها الغناء.
لم يطوِ أهالي ولاية البريمي صفحة إعادة الحياة لفلج الصعراني، بل فتحوا صفحات جديدة لبناء قصص نجاح ستظل خالدة للأجيال، فما عرف عن الافلاج أنها مصدر مائي للشرب والاستخدام الحياتي المتعدد وكذلك للزراعة، لكنَّ أهالي البريمي ابتكروا وظيفة أخرى لفلجهم ليكون وجهة سياحية من داخل السلطنة وخارجها.
والتفَّ الأهالي ومدوا أياديهم بأيادي بعضهم البعض، وترجل المهندس طالب بن أحمد الجابري -الذي ينسب إليه الفضل بعد الله، وبدعم من أهالي الولاية، في استثمار شبكات التواصل الاجتماعي للتعريف بالفلج والخطة الرامية لإعادة إحيائه، وبيان كل مرحلة، ورسم حلم طال انتظاره في إعادة الفلج إلى سابق عهده- وقد تحقق حلمهم وبدعم من قبل وزارة البلديات الإقليمية وموارد المياه، وبتبرعات من وجهاء الولاية وأصحاب الأيادي البيضاء، وأثمرتْ جميعها في وصول الفلج من المنبع (أم الفلج) إلى شريعة الصعراني، وأصبح الفلج مقصدا للمغامرين للدخول إلى منابع الفلج، وللسياح للاستمتاع باللوحة الجمالية لشريعة الصعراني التي جمعت بين عبق الماضي التليد والحاضر المشرق، فمن يصل إلى الشريعة يلمس الجهد الجبار الذي بُذل؛ ليكون الفلج وجهة سياحية أخَّاذة، حيث يجد المجلس التراثي للرجال، وآخر للنساء، وأحواضَ السباحة، ويُطربك خرير الماء حيث تناسب في جداول الفلج المتجهة إلى البساتين الغناء.
كما شهدت الولاية خلال العامين الماضيين تدفقَ أفواج كبيرة من السياح من داخل السلطنة ومن مختلف دول العالم، كما زار الفلج شخصيات سياسية ودبلوماسية وإعلامية ومثقفون وأدباء وشعراء، إضافة لطلاب وطالبات المدارس ومؤسسات التعليم العالي، واحتضنت شريعة الفلج فعاليات ثقافية وأدبية وفنية لكبار السن والأطفال، ولعل أبرز الشخصيات التي زارت فلج الصعراني سعادة السفير المصري المعتمد لدى السلطنة، وعدد من أصحاب المعالي الوزراء كوزير البلديات الإقليمية وموارد المياه ووزير الزراعة والثروة السمكية وسعادة رئيس غرفة تجارة وصناعة عُمان وآخرون.
وكثمرة للسمعة الطيبة التي جالت فيها قصة أحياء فلج الصعراني في مختلف دول العالم، فقد شارك المهندس طالب بن أحمد الجابري وكيل الفلج في تظاهرتيْن دوليتيْن؛ إحداهما في جمهورية الهند الصديقة والأخرى في المملكة المغربية الشقيقة؛ للتعريف بقصة النجاح التي حققها أهالي ولاية البريمي في إعادة الحياة لفلج الصعراني واستثماره كوجهة سياحية.
أمَّا تطلعات أهالي الصعراني وطموحاتهم فهي كبيرة جدًّا؛ لإقامة مشاريع نوعية تسهم في الترويج السياحي للسلطنة عامة، ولمحافظة البريمي خاصة، وتوفر فرص عمل للعُمانيين، من خلال إقامة قرية تراثية دائمة، والتعريف بالنخلة وفوائدها الاقتصادية، ومطعم سياحي ومتحف للصناعات الحرفية؛ لكن الوضع المادي يحول دون تحقيقها في الوقت الراهن، ويمنون النفس بأن تلتفت وزارة السياحة لفلج الصعراني وتضع يدها بيد الأهالي!
وبوركت الأيادي المخلصة التي تبني عُمان بصمت…،