المدرسة حياة الكلمة الأثر والتأثير
د محمد بن أحمد البرواني
في خضم الضغوط من دخول وخروج للمعلمين وأولياء الأمور والطلاب في الصباح الباكر وبعد الانتهاء من المراسم المعتادة في طابور الصباح وعند الجلوس على كرسي العمل لالتقاط نفس عميق لتكملة مهمات اليوم الدراسي من زيارات إشرافية وحصص الاحتياط والبريد اليومي وغيرها، يأتي ليجلس مقابلاً، ليسألني بعد التحية طالباً طلبا لم يمرّ عليّ طيلة فترة عملي في المدرسة أو أي من المدارس السابقة؛ طلبٌ شدّني وقلب تلك الاستراحة إلى عصف ذهني، تتقاذفه العبارات التعجبيّة التي مرت في ذاكرتي لثوانٍ ، وبحث عن إجابة لسؤال أو طلب غير متوقع وخارج عن المألوف، لم يرن إلى مسمعي طيلة عملي بالمدارس على مدار عقدين ونيف وإلى اليوم “أستاذ انصحني” لم تكن كلمة عابرة أو مفاجأة فقد جهّز نفسه لقولها دون تردد و خوف راغباً بحب وطالباً بشغف “أستاذ انصحني”، طلب لا يفعله إلا متبصر متعمق في أمور نفسه وذو عزم يريد أن يحقق أمنياته وطامح لرؤية إنجازاته واضعاً أمامه قوله تعالى: “﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾الرعد 11 ” فكانت إجابته طاعة الله وتقواه، وبالعلم والعقل لا بالمال والذهب يزداد رفع الفتى قدراً إلى رتب
ليحصل على مآربه ورؤاه.
البحث عن الكلمة المؤثرة التي تحفز النفس وتلهبها وتزيد الهمم وتعليها وترفع الطاقات وتفجرها أمر لا يتقنه كل البشر ولا يتواضع له إلا بعضهم ولا يمكن إحداثه إلا من قليلهم.
كنت في صحبة أخي للسلام على معلمه ومعلمنا – رحمه الله تعالى- الذي نكن له كل تقدير وندعوا له بدعاء الرحمة والمغفرة، حيث إن ظروف العمل والسفر وغيرها حالت دون لقياه لسنين وبالتالي عدم تذكره لأخي وما أن جالت بخواطرهم ذكريات لا تُنسى، وماضٍ حُفر لا يزول، ونقش في الصغر لا يُمحى في جامع إبراء صباحاً، إلى الخويلية مساءً فكاهة مرة وتهذيب أخرى، جلسة مفعمة بصنوف العلم والأدب متخلقة بخلق جم، تواضع العلماء واعتراف بالتقصير وطلب للمسامحة عن خطأ قد حدث، أو مشاعر تدفقت من فقيه بارع ونحويٍّ عارف ومربٍّ فاضل يُكن له طلابه كل تقدير وكَنّ لهم احترام وتجليل، سمو لا يعلوه سمو وتواضع لا يناله إلا قليل عرف الله حق قدره ونال من علمه وفهمه، تواضع لا يقل من مقامه ولا يزيده إلا فضلا ولا يعلوه إلا قدرا.
رسول الله صلى الله عليه وسلم في فتح مكة المكرمة دخل مطأطأ الرأس وهو منتصر اذهبوا فأنتم الطلقاء، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء. يقول الله تعالى: ﴿أَلَم تَرَ كَيفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصلُها ثابِتٌ وَفَرعُها فِي السَّماءِ﴾[إبراهيم: 24] ويقول الله تعالى: ﴿قَولٌ مَعروفٌ وَمَغفِرَةٌ خَيرٌ مِن صَدَقَةٍ يَتبَعُها أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَليمٌ﴾[البقرة: 263]، ويقول المثل “الكلمة الوطية أخير عن العطية” والسلطان قابوس – رحمه الله- قال: “سأجعلكم تعيشون سعداء وسأجعل الحكومة عصرية “، وكلها كلمات وعبارات تدعوا إلى الطمأنينة والسكينة والتفاؤل الحسن الذي يحفزّ النفس ويدعوها إلى العمل والإقدام، ليس كمن يزرع الشوك في وجوه البشر بكلماته القاتمة المليئة بالتعقيدات والسواد، وكأنما الحياة مآل للكسل والخمول، فبالرغم من مصير الإنسان المحتوم إلا أن الله عز وجل جعل في نفوس عباده الأمل بالعمل والسعي وأرشدهم بالصبر عند المصيبة في قوله ﴿الَّذينَ إِذا أَصابَتهُم مُصيبَةٌ قالوا إِنّا لِلَّهِ وَإِنّا إِلَيهِ راجِعونَ﴾[البقرة: 156]، فالكلمة المؤثرة تبقى ما بقي الوجود، تحيا بحياة الأفراد، فأقوال الشيخ عامر بن سليمان الشعيبي باقية تتناقلها الألسن إلى اليوم في كل موقف حكمة وخلق وتهذب وتطبع واسمع نصيحة عاقل إن كنت نشاد خزنه في ضامر فؤادي والرئيس المنتخب جو بايدن يقول أنا أستفيد بشكل كبير من التأمين الصحي وسأعمل على أن يستفيد كل مواطن أمريكي كما نستفيد نحن، ونائبته كمالا هاريس أو كمله هاريس تقول أمريكا مستعدة وأنا وجو.
منا من يخاطب أبنائه وأهله بكلمات وعبارات تدمي العين وتجرح القلب يظل جراحها نازفا في كل تذكار تحد من انطلاقته وتشلّ من عزائمه في فترة وجودي كمدير لإحدى المدارس يأتيني طالب ويخبرني بأن أبيه قال له أنت لا تصلح للدراسة “ما مال علم ” فقلت له: اثبت العكس واقبل التحدي فقبله وكان من نصيبه دخول الجامعة والحصول على نسبة 94% إنها الكلمة الطيبة يا سادة.
ما أبغضني وآلمني كلما نزلت السوق أو كنت في محفل إلا وتجد الكلمة المفتاحية إسداء النقد على جسمك من هزاله و سمنه، ضعفه و قوته، مرهقاً ومتعبا.
هذا هو الشيخ المالكي عندما أساء معاملته أحد تلاميذه قال أبياتاً يحفز بها نفسه إني أقول كما قال الذين مضواصبراً جميلاً فيا طوبى لمن صبرا كفّوا الملام فحسبي من ملامتكم والله يكلأنا من كل من مكرا ستعلمون غدا قدري ومنزلتي إذا تكشف ما قد كان مستترا إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم لو متّ من قدرا ليس هناك ثمة ما يدعو إلى عدم إثارة الدافعية وتشويقها أو الحديث بالحسن فالكون تقديره بيد خالقه فهو مسيره وحافظه، وهو الذي أوجده من العدم إلى الوجود وما دور الإنسان فيه إلا الاجتهاد والعدل والإيمان بهذه الوجودية الإلهية العظيمة التي أوجدت الرزق لكل دابة على هذه الأرض أو غيرها ” ﴿وَما مِن دابَّةٍ فِي الأَرضِ إِلّا عَلَى اللَّهِ رِزقُها وَيَعلَمُ مُستَقَرَّها وَمُستَودَعَها كُلٌّ في كِتابٍ مُبينٍ﴾[هود: 6.].
لهذا حفز الهمم بالكلمة المؤثرة وإثارة الدافعية بالكلمة المؤثرة وتحفيز المعنويات بالكلمة المؤثرة، والرجل يتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالا فتهوي به في نار جهنم أو ترفعه إلى الجنة.