آخر عرضٍ عسكري
فتحية الفجري
نعدُّ الأيام والساعات والدقائق نترقب حضوره اللافت في عيده الميمون وكل إطلالة سامية له.
في آخر عرضٍ عسكريّ له كُنت عائدةً من صحار قبل بدء العرض بثوانٍ، تأخرنا بسبب النقاط المتمركزة على الطرقات في ولاية (السويق)، وإخبار الجميع باتخاذ الطريق الآخر، مُنعنا من المرور في الطريق المؤدي إلى “قاعدة سعيد بن سلطان البحرية” وتحت النفق المؤدي إلى البلدة فسلكنا معبراً آخر، وجود “المدرعات” بلونها الأزرق الجميل وكل ثلاث مدرعات تبعد بمسافة قد قِيست بدقةٍ عالية عن الأخرى، في كل نقطة الجنود البواسل يقفون بهيبةٍ وثبات في كل شبر من البلدتين، كان المكان يفوح هيبةً وشموخاً، وصلنا البلدة، كان الجميع حاضراً يترقب لمتابعة العرض العسكري في القناة العامة.
يفصلنا عن رؤيته جدار “القاعدة” واعتدنا على المسمى القديم لجيل ذلك العصر “البحرية”، كان آخر عرض عسكري -له طيب الله ثراه- كعادته حضور من الطراز الرفيع، بموكِبهِ المهيب الذي لم يسبق لنا أن شاهدنا مثل هيبته في مكان ما، بذلك عرفناه وبه سنتذّكره، بتلك الهيبة، وبذلك التفرد الذي لا مثيل له، خرج من (بيت البركة العامر) والريح تَرزح غادية، وأطراف النخيل في طرقات (المصنعة) تتمايل راقصةً للموكب الميمون، وسيلٌ من الأعلام ترفرف عالياً منتصبةً في ساريتها محلّقة تتنفس الإباء والشموخ من وطن الشموخ نفسه، وسلاسل متموجة من المصابيح المضيئة الملونة بلون العَلم تتخللها النقوش والزخارف البهيجة، تُحيي فيهِ الهيبة والعُلوّ والعزة والرفعة والسِّلْم والحُب والحُنُوّ، ككل مرة يخرج فيها في موكبه الميمون، تجد أبناءه الأوفياء يقفون لاستقباله بذات الشعور البهيج وذات الحُبور والسعد، يمطرونه بالورود والدعاء، يهتفون له على الطرقات ويلوّحون له، ويلوّح بيده الكريمة البيضاء السَّخِية كعادته من نافذة سيارته العاجية.
دخل بذات الهيبة، والشموخ والثبات، رفع تلك الكف الندية ليُحيّي الجُند ويسلم على الحضور، والابتسامة النقية حاضرة ولافتة كحضوره الذي لا يُمل، متقلداً الأوسمة و”الشارات” المُذهّبة واللازوردية المدعمة بالسيور اللولبية ذات اللون الأصفر المشع، والأشرطة التي تحمل لون العلم وألوان أركان قواته المسلحة، التي تفرّد وتميّز بها.
غادر المكان أبي السلطان، بقامته الممشوقة ومحيَّاه الأشمّ النبيل، غادر الرجل الوقور ملوحاً بيده، “أعز الرجال و أنقاهم” غادر مودعاً شعبه، مودعاً المكان، مودعاً عمانه،
تبكيك “المنومة” و “قصر العلم” و “حصن الشموخ”، تبكيك “قاعدة سعيد بن سلطان” ، تبكيك اليخوتُ السلطانية يا بن سعيد، يبكيك معطفك، تبكيك “الدقلة” و البشت والخنجر” والعمامة السعيدية”، يبكيك ” الشلواني” و”الشرواني”، تبكيك الأوراق والأظرف ومحبرتك، تبكيك منضدتك وكُرسِيك، تبكيك الصروح والبيارق، يبكيك سيح الشامخات، والطيبات، وكل ظلٍّ في الأرياف
يبكيك شعبك الوفي، يبكيك جندك الأشاوس، تبكيك التفاصيل أيا سلطانُ
يبكيك كل شبرٍ من عُمان انتشلته من فقره المدقع بعزيمة الزيزوم والضرغام، ستظلُ قابوس عُمان، ستظل خالداً أيا أبتِ.