الابتلاء والنجاح
إلهام السيابية
((لا تستعجل بارتداء العمامة لوحدك يا حارب، سأكون عندك بعد دقائق))، كان صوت عمر واضحاً وحازماً مما جعل حارب يتململ في جلسته وهو يتأمّل وجهه في المرآة الكبيرة التي أمامه، ما يزال أثر العمليات التجميلية في وجهه، ولكنه رغم ذلك بدا شاباً وسيماً بلحيته الخفيفة وشاربه الذي يغطّي معظم العمليات التي أُجريَت له، كم كانت قاسيةً تلك الفترة التي قضاها في معاناةٍ لا أحد يتحملها، ربّما في بداية ولادته لم يشعر بذلك وإنما كانت أمّه هي أكثر من عانتْ وتعبت في الاهتمام به، لأنها لم تمرّ بولادتها الأولى (لعمر) بكلّ تلك العمليات والتعقيدات والمواعيد والأدوية، بل كانت ولادته مُريحة وسهلة، ولم تكابد ذلك العناء الذي تكلّل مع حَمل وولادة حارب، الذي وُلد طفلاً مشوّهاً، ودائماً ما يطلقون عليه (الأرنبي)؛ لأنّ شفتيه تأتي مُقسمة ومفتوحة لأعمق اللثة العُليا مع فتحات داخلية صعبة، أُجريَت له عدة عمليات تصحيحية وتجميلية، ولكن بعد ستّ سنوات، قدّر الله لأمّه الحَمل مِن جديد، ورغم تخوّفها الشديد إلا أنها حَمدت الله وشكرته على نعمة الحمل، وقد كتبت لها قدرة الله، وتمّت ولادتها القيصرية الثانية بعد أن كادت تفقد جنينها ولكنّ الله لطف بها وبجنينها، وفوجئت بأنّ المولود جاء أيضاً مشوّهاً كحارب، وقد أطلق عليه أباه اسم (حارث)، مَن تكون هي لتغضب على أمرٍ قد كتبه الله لها، ولكنها لم تكن لتغضب أو تتأفّف على أيّ شيء بلْ كانت تحمد الله في كل وقت، وتميّزت أمّ حارب بطول البال، صبورة لأبعد الحدود، وخاصةً في وقت الرضاعة، تعبت وعانت منها كثيراً، كان عليها أنْ تعطي الحليب بملعقةٍ صغيرةٍ وبجرعات بطيئةٍ جداً، وطعامهم كله يجب أن يكون مهروساً لفترة طويلة؛ لأنهم لا يستطيعون المضغ أو قطع أيّ طعامٍ بشفتَين مفتوحتين.
كنّا نحتاج دائماً للعناية الخاصة، لذلك لم تكن أمي تخرج مع صاحباتها أو لأيّ عزيمة أو دعوة سواءً كانت زواجاً أو خطوبة، لكنها لم تكن تحفل بشيء بل كان جلّ اهتمامها كان لنا، وخاصةً عندما بدأتُ النطق بعد عدة عمليات وأناديها باسمها، كانت ترفعني فرِحةً مسرورة وتحتضنني بقوة وهي تبكي وتبتسم في نفس اللحظة.
أتذكر ذلك اليوم الذي فقدتْ فيه هدوءها، كنا معاً في السوق، وأنا ابن عشر سنين، أستطيع أن أعتمد فيه على نفسي في المشي، أما أخي حارث فكان صغيراً تحمله أمي في عربتة الخاصة، كانت تختار بعض الملابس لنا وكُنا من كثرة إزعاجنا ولعِبنا نُثير الجلَبة في المحلّ مما أغضب أحد الرجال الذي كان بجانبنا وهو يشتم ويسبّ ويتّهم أمي بأننا عقاباً لها على عملٍ قامت به في حياتها وكثيرٌ من الكلام الجارح البذيء، و بينما كانت زوجته تحاول ردعه إلا أنه لم يتوقف عن الحديث، وكنت أنظر لأمي التي كانت الدموع بعينيها، ولم تتلفّظ إلا بعدّة كلمات بصوتٍ حزين صارخ:
حسبي الله ونعم الوكيل، هذا خَلق الله يا رجل، اتّقِ الله في حديثك فلعلّ الله يبتليك مثلي في هذا الأمر، ولا أقول إلا حسبي الله ونعم الوكيل.
عندها توقف مُحاسب المحلّ ونظر لأمي بشفقة، وطلب من الرجل وزوجته الخروج من المحلّ بهدوءٍ وبدون أي إحراج، كان موقفاً صعباً ولكني أحسستُ بقوة أمّي التي كانت تقول لنا دائماً: ((أنتم من علمتموني أن أكون قوية)).
بالفعل كانت قوية، ولم تخذلني عندما عزفتُ عن الذهاب للمدرسة لمجرد أن مُدرّستي قالت لي:
أنت قبيح.
بل دخلَتْ معي لغرفة الأخصائي وطلبتْ مقابلة المُدرّسة وأعطتها درساً في الأخلاقيات والقِيم الإنسانية، كنتُ فخوراً بها جداً، أعطتني ثقة بالنفس لا حدود لها، وكذلك أبي الذي كان يأخذنا معه لكل مكان يذهب إليه، يُعلمنا ويفهمنا ما الذي يصحّ وما لا يصحّ فعله مع الناس، وأين الخطأ، وكيف نتحدث مع الكبير ونحترم الصغير، علّمنا ألا نهتمّ لحديث الآخرين وتعليقاتهم علينا التي تقلّل من شأننا وإنّما الأهمّ أن نحقق كلّ ما نريد، ولا نجعل الفشل أسهل الطُّرق لحياتنا، فالناس سيتذكرون الطيّب بأصله وحُسن أفعاله، أمّا الخبيث فيظلّ تذكّره بالسيئة حتى بعد مماته. رغم صِغر سنّهم إلا أنهم تعلموا الكثير والكثير، وها هو أخاه عمر يقف أمامه ليصلح له عمامته وهو يقول له: ((هيا جاء دورك ياخرّيج)).
أجل هذا يوم تخرجه من كلية الحقوق، اليوم الذي ينتظره والديه بفارغ الصبر ليحصدا ثمار زرعهما، سيتخرج بامتيازٍ مع مرتبة الشرف المميزة وسيكلّل أمه بتلك الشهادة التي تمنى أن يُقبّل قدميها في تلك اللحظات الجميلة، وقد أعدّ لها خصيصاً طوقاً من الياسمين الجميل، وجلس أخاه حارث بين الجمهور مستعداً لتصوير أجمل لحظات التخرج، لتبقى أجمل الذكريات ليحتفظ بها في تلك الآلة الصغيرة.