آداب الصلح بين المتخاصمين في الوثائق العُمانية
محمد بن سالم بن علي الجهوري
قال تعالى: ﴿فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم﴾ [الأنفال: 1]. كما جاء في قول النبي ﷺ:( المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) متفق عليه. على ضوء ذلك نجد أن الإصلاح بين المتخاصمين فيه منفعة كبيرة تُغلق باب الخصومة وتقرب القلوب بالتآلف والوئام ونبذ الخصام. ويُعد إصلاح الخصام والنزاع بين الأفراد من الأعمال النبيلة وسمة أخلاقية في المجتمع الإسلامي ككل. وقد حرص عليها العُمانيين على وفق آداب وأخلاقيات حملت بين طياتها جمع الشمل وإزالة العقبات والخلافات التي قد تعكر صفوة الحياة الاجتماعية بينهم. ومهما كانت هذه الخلافات بأي شكل كان وبأي لون تكون نرى باب الإصلاح بارزًا بكلماتهم في مجالسهم واجتماعاتهم وأوراقهم التي وثقتها أقلامهم عبر الزمان؛ لتكون بذلك أحد القواعد التي خرجت بها صفات ومكونات المجتمع العُماني المتماسك البناء الذي يجسد أساسيات الحوار وآداب التعامل مع المواقف والخلافات، فالإخاء ولملمة الشمل من الأهداف السامية التي تميز بها هذا المجتمع. وقد كان السابقون يجسدون هذه الخصال الطيبة في حياتهم اليومية، فقد نقلت لنا العديد من الوثائق التاريخية البُنية الإصلاحية التي قامت عليها حياة من سبقنا في آلية التعامل مع الصعوبات وحل المشكلات لتكون درسًا تربويًا وفكريًا واجتماعيًا حيث حفظت هذه الوثائق ما نسجته أيدي القائمين عليها والآلية التي يتبعونها في الصلح بين المتخاصمين وحل مشكلاتهم في وقتها قبل تفاقمها. ومن أمثلة هذه الوثائق الآتي: ورد في وثيقة مؤرخة يوم حادي شهر ذي الحجة 1382هــ: (قد صح الاتفاق بعد المحنة والشقاق بين الجماعة … في إحرام المشاع السيح والسمر… واتفقوا على هذا الصلح، كي لا يخفى)، وورد بوثيقة مؤرخة يوم 27 شوال 1346هــ: (قد وقع الاتفاق بعد الشقاق ما بين الجماعة… في الأرض الذي يدعيها الجميع… وقد وقعت المنازعة والمخاصمة فيها، وكثر القيل والقال، وحينئذ نظرنا أن نضع صلاحًا بينهما، ونصبنا هنا جواميد … وهذا ما وقع عليه الاتفاق). وجاء في وثيقة مؤرخة يوم 28 رجب 1347هــ: (قد وقع الاتفاق بين الجماعة في الفلاه وفي المقاسمة بينهم، صار بينهما … لا يباع منه حطب أخضر ويابس في الباطنة، ولا يمنع لحوايج البلدان في الحطب والسماد والخباط كل يسعى لحاجة الدار)، وفي وثيقة بتاريخ 20صفر 1376هــ: (قد وقع الاتفاق بعد الشقاق ما بين … في جدار بيتهم، صار الشرط بينهم هذا الجدار موقوف لا أحد يغيره من صوب ماله، والذي يتخرب من صوبه يقيمه على حسب السابق، ليعلم الواقف على ذلك)، وبينت وثيقة في يوم 2جمادى الثاني 1390هــ: (تخاصموا … في الفلج الذي تحت الجدار … وجعلنا بينهما صلحًا حاسم خصام كل دعوى، صار الجواب بينهما من الجدار الذي قابض الإحرام من المعج حادر … أولاد …لا لهم حق ولا دعوى في الإحرام من قبض الجدار مغرب وكذلك الجدار الذي قابض حرم … إن طاح عليه عماره، الآن الجدار قابض الأرض …لا بقت له فيه دعوى، كي لا يخفى بذلك بمشهد … بعد ما شهد الله كتبه بأمرهما …)، وفي وثيقة بتاريخ يوم 4 ربيع الثاني سنة 1368هــ: (ليعلم من يقف على هذا الكتاب ما بين … قد وقع الاتفاق بعد الشقاق بينهم في المال الذي متشاجرين فيه، صار بينهم صلح … وذلك على مشهد … كتبه شاهدًا عليهم…)، وجاء بوثيقة بتاريخ يوم 25 الحج 1398هــ: (لقد حضر لدينا … متخاصمين في دراهم… دعوة مائتين قرش فرنسية، فقد أنكر … الجواب قائلاً: اني ارسل لك دراهم كثيرة ولم يبقى عليّ لك حق وبما يلزمني بحكم الشرع الشريف أديت لك، فما رأينا في اليمين خير وأخرناهم عن اليمين وسامحنا بينهم ورضوا بصلح الجميع، بمشهد…كتبه…)، وبوثيقة بتاريخ يوم 24 القعدة 1389هــ: ( قد حضرو لدينا … متخاصمين في شراء البيت والجيل وستدت دعواهم في البيت والجيل، وصار هذا المبيع لهم بثلاثتهم شركاء لا أحد منهم خارج من هذه الشرية … ونحسمت دعواهن ما بينهما لا أحد له فيهن حق منهم طاحت دعواهن، ليعلم الواقف بذلك بمشهد …كتبه …). نستخلص من ذلك أن فن الإصلاح بين المتخاصمين كان يرتكز على قاعدة هامة وهي خروج الطرفين بالرضا التام والاقتناع بما تم، كما أن الهدف في العموم عدم ترك أي مجال لتأثر العلاقات الاجتماعية بينهم فيكون الصك الموقع بينهم بمثابة الحُكم الجامع والمرضي. كما أن الوثائق بينت صفة القائمين عليه من الشيوخ أو الأعيان أو القضاة المعروفين وغيرهم ممن لهم دورهم في الجمع ولم الشمل. ويتم تدوين الحدث والصلح وأطرافه المتخاصمة ووقته وإشهاد الشهود ليكون الصك المبين للصلح معتمدًا وثابتًا في آلية التوفيق والمصالحة.