لماذا أكتب في زمن الجائحة؟
صارة اضوالي
أكتب، أيها السادة، لأواسي نفسي، وأهرب من هذا الشبح الروتيني الذي يلاحقني صباح مساء كظل يتوارى خلف الأنظار.
ما بعد الجائحة، غدت الحياة تعيسة، غريبة، متعددة الأطوار ! تغير كل شيء، ما عاد هناك ما يلهيك، ولا يشغلك، صار المطلب واحدًا بعدما كان متعددًا.
نعم ! مطلب البشرية واحد لا ثاني له؛ الخلاص، النجاة من الطوفان الذي لا يبقي ولا يذر !
ذات مساء، اختليت بنفسي لأتساءل: هذه الشوارع الخالية، وتلك الأزقة الفارغة، ما لها تخلو من صوت البشر؟ ما لها تقبع وحيدة بعدما كانت ملأى بالصراخ والضوضاء، فحلّ، بسرعة البرق، هذا الضجر؟
هل ستعود الحياة كما كانت؟ هل ستعم البسمة وجوه الصغار؟ متى تعج الممرات بالباعة المتجولين، ببائعي الأسماك، لنسمع، من جديد، لحن النداء، ونهرع مسرعين للاستجابة؟ متى ستكتظ الأسواق بالنساء والرجال؟ متى تعود الشوارع مزدحمة والمقاهي مختنقة؟
في يوم ما، كل شيء كان يبدو جميلا؛ الحياة تسير بوتيرة هادئة، واليوم ما عدنا نسمع إلا مئات الأصوات تصرخ، وتتوسل، تبكي، تستنجد؟ تراها من تستنجد؟ ومن هذا الذي ترجو؟ إلى من تتوسل، إلى الخالق أم إلى المخلوق؟
صار النهار ليلا، والليل نهارا..
نعم، لا تدري متى ينقضي نهارك حتى تترك كل شيء وراءك، ولا متى يبدأ ليلك حتى تنعم بالسكينة والهدوء، وتنفض عن عباءة جسدك تعبَ يومك المكلوم !
وأي تعب هذا ينزف قُواك، وأكثرنا يعيش نسخة يوم مكررة من غير جديد يذكر، ولا حديث يسأل؟
هل كنا لنتخيل يوما أن الحياة ستغدو حبيسة أخبار من نمط واحد بل وفي موضوع واحد ووحيد؛ إنه الوباء…إنها الجائحة التي تخبرك على مدار اليوم بـأخبار عدد المصابين، وعدد الوفيات، وعدد المتعافين من غير كلل ولا ملل !
لعمري، إنها اللعنة، التي تصيبك بالذهول فلا أنت تدري أي وجهة أنت مولّيها !
ولكن، من هذا الذي أخبرنا بأن زمن المعجزات انقضى، ووقت العجائب انتهى ومضى؟ هل كان لأحد منا أن يحسب هذا الحسبان، ويتفطن بعقل الحكمة إلى هذا المخلوق، الخفي عن الأعيان، الذي لم يكف عن الجولان؟
اليوم فحسب، تدرك الأمة حجم النعم التي كانت تنشط فيها وتسعد بها، بل وتنتقي منها ما تشتهيه، وتتأفف مما تمقته.
اليوم فحسب، لا تنفع الذكرى، أو ربّما نفعت الحمقى وذوي الجهالة !
اليوم فحسب، تستشعر حلاوة الحرية، طعم الاستقلالية، روعة الغياب !
انظر لقول من قال:
وَطُولُ مُقام المرء في الحي مخْلِقُ لِدِيــــباجَتَيْهِ فَاغْتَرِبْ تَتَجـــــــــَدَّدِ
فَإِنِّي رَأَيْتُ الشَّمْسَ زِيدَتْ مَحَبَّةً
إِلَى النَّاسِ أَنْ لَيْسَتْ عَلَيْهِمْ بِسَرْمَدِ
اليوم فحسب، ستكون الإنسانية بخير ما دامت روح العطاء سارية في شرايين الأمة.. ما دامت ألسن الصادقين تلهج بالدعاء، وترجو استجابة النداء !
اليوم، يلتئم شمل العائلات بعد أن كانت شتاتا.. تجتمع حبات عِقد الأبناء بالأباء؛ عِقد، بالأمس، كان منفرطا..
موجات من التذمر والأسى تغمر العالم، وتجتاح الكيان الإنساني بكل تفاصيله الصغيرة؛ تدق باب الضمير علّه يستجيب، يفيق من سباته الذي دام سنين وسنين، تشبه حكايته في ذلك، إلى حد بعيد، قصة الفتاة النائمة التي أصابتها لعنة الساحرة، فما كان سبيلها إلى النجاة غير قبلة دافئة صادقة من قلب محب أو عاشق ولهان..
لكن شتّان بين حكاية عرف التاريخ نهايتها، ولحسن الحظ أنها كانت سعيدة، وبين حكاية لا زالت أطوارها تجري على ساحة الحرب؛ الكل يترقب ساعة الفوز أو الخسارة… إنها النهاية المجهولة !
تبعثرت الكلمات، وانتفضت الأفكار، وسالت الدواة على أوراق انتحرت فيها الحروف، وأعلنت الاعتزال..
لكنّ الذاكرة لم تفعل، ولن تفعل، وكيف لها ذلك؟ وهي التي تتنفس على شاطئ الماضي هواء الذكرى، وتغوص في أمواج الحنين والشوق والهوى..
اعتنوا بذاكرتكم جيدا، بل اعتنوا بماضيكم؛ لأنه خير جليس في زمن الكورونا.