شيخُ العربية في ضيافة أمير الشعراء
د. سعد مصلوح: أزمتنا المعرفية ترجع إلي غياب التكامل بين العلوم
صبري الموجي:
وسط حضورٍ طاغ من النقاد والأدباء والشعراء واللغويين، استضاف مُتحف أمير الشعراء أحمد شوقي بكرمة ابن هانئ بالقاهرة مؤخرا شيخ العربية د. سعد مصلوح في محاضرة بعنوان ” دور اللسانيات في النظرية النقدية المعاصرة” أدار المحاضرة د. السيد العيسوي عبد العزيز مدير النشاط الثقافي بالمتحف.
وفي كلمته طرح د. مصلوح العديد من القضايا المُتعلقة بالنقد الأدبي والعلم والتعليم، وفي مُقدمة تلك القضايا قضية ” عِلمِيَّة النقد”، حيث أكد أن تحكيم الذوق في نقد الأدب قد يُفضي بلا شك إلي أحكام غير سديدة، ناتجة عن ترجيح ذوق علي ذوق، مثلما فعل طه حسين مع أمير الشعراء شوقي، حيث عاب بيته الخالد :
وأخذُك من فَمِ الدنيا ثَناءً **** وتركُك في مسامِعها طَنينا.
حيث رأي العميد – على غير الحقيقة، مُعتمدا على ذوقه – أن لفظ الطنين ضعيفٌ في موضعه لا يلائم صدر البيت، حيث قال:” انظر إلي صدر البيت تجده فخما ضخما واسعا رائعا، ثم انظر إلي عجزه تجده خاملا ضئيلا نحيفا”، ومن ثم فقد قطع طريق النقاش والجدال مع القراء بتلك العبارات الصارمة انتصارا لحُكمه، رغم أنه حكمٌ ذاتيٌ ذوقيٌ محض من السهل دحضُه والردُ عليه.
وانطلاقا من رفضه مبدأ الذوق في الحكم علي الأدب، أشار د. مصلوح إلى أنه قال منذ عدة عقود: إن الأدب فنٌ ولكن دراسة الأدب ينبغي أن تكون علما، يخضعُ لشروط العلم الإنساني، فيستند إلي استراتيجية واضحة، وإلى منظومة مصطلحية منضبطة، وإجراءات بحثية عابرة للتخصصات، فلا تكون حكرا علي النقد الأدبي أو اللسانيات.
وقال د. مصلوح : ورغم أن دعوتي المبكرة إلي “عِلمِيَّة النقد ” لم ترُق لكثير من رفاق الصناعة آنذاك، إلا أنه برز مؤخرا تيارٌ غربي أقرَّ ما قُلتُه آنفا، ودعا إلى ضرورة “عِلمِيَّة النقد” منعا للخطأ في النقد والتحليل.
واستنكر د. مصلوح على عالمنا العربي “إهدار الاختصاص”، حيث صار كلٌ يكتُب ويُؤلف فيما يُحسن وفيما لا يُحسن، وكان من ثمرات ذلك الإهدار في التخصص، أن صارت المؤلفات العربية أحد أنواع ثلاثة: إما أن تكون مؤلفاتٍ علمية حقيقية، تقوم على أساس معرفي أصيل وهي قليلة جدا، أو أن تكون مؤلفاتٍ جمعت بين الجيد والرديء، واعتمدت على الاقتباس، والترجمة والتدليس في التأليف، كأن تُؤلف وأنت تُترجم، فتُخرج نصا هو ترجمة أشبه بالتأليف، أو تأليفٌ أشبه بالترجمة، وحتي تنطلي الخدعة على القارئ، يعمدُ صاحب تلك الحرفة إلي إزالة الفواصل وعلامات التنصيص، ويستخدم عبارة – يقول د. مصلوح – أعتبرُها من أسوأ ما أمدتنا به العربية، وهي عبارة” وقال بعض الباحثين”؛ لتجهيلِ الإسناد، وإزاحة الفواصل، ونسبة نظريات معلومة لشخصيات غير معلومة، ليَخرُجَ بعد كل هذا كتابٌ جديدٌ، ويُطرح في سوقٍ استهلاكية يعاني أهلُها جوعا شديدا، وكسلا أشد عن تعلم اللغات والرجوع إلى مصادرها الأصلية.
ويضيف د. مصلوح : والنوع الثالث من المؤلفات هي تلك التي تأتي مقطوعة الصلة بالعلم تماما، ولا تستحق الوقوف عندها، أو تسميتها مؤلفاتٍ أصلا.
وفي تشخيصه للداء، يؤكد د. مصلوح أن أزمتنا المعرفية ترجعُ إلى غياب التكامل والتضافر بين العلوم، وتعودُ جذور هذه الأزمة إلى التعليم الثانوي بقسمَيِّه العلمي والأدبي، اللذين يُرسخان لمعني “الضدية” والتناحر، مشيرا إلى أن الحل يكمنُ في هدم ذلك الفاصل، وأن تكون هناك مقرراتٌ مشتركة بين القسمين، ومقرراتٌ أخرى مُتاحة للاختيار من بينها، وذلك لأنه إذا كانت تلك القطيعة والفواصل بين العلوم تُزرع في الثانوية، فإنها تنمو وتترسخ في مرحلة الليسانس والبكالوريوس، وتزداد عُمقا في مرحلة الدراسات العليا، وليس أدل على ذلك من لافتات “أقسام اللغة العربية وآدابها” ففيها عطفٌ كريهٌ بالنسبة لي ولكل غيور علي العربية؛ لأنه يُوحي بالانفصال، وكأن العربية شيء، وآدابها شيء آخر.
وفي إجابته عن سؤال حماسي حول ضرورة خلق ” نظرية نقدية عربية أصيلة” تتلاءم مع أدبنا وثقافتنا العربية، تساءل د. مصلوح مُستنكرا: ما معني نظرية عربية أصيلة؟، ثم أردف قائلا: لا يجوز الحديث عن نظرية عربية، فالنظرياتُ تكون إنسانيةً عامة، ويمكن تطويعُها للتطبيق بعد ذلك، والحديث عن وجود إسهام عربي في النظريات الإنسانية أمرٌ جميل، لكن من الصعب تحقيقه؛ لأن95% من رسائلنا العلمية هي رسائل مُستنسخة ولا جديد فيها.
وطالب د. مصلوح الباحثين بأن يتحلوا بروح ” المغامرة العلمية” تلك الروح التي تحلي بها هو نفسه، والتي تتطلب أن يكون الباحثُ نسيج وحده، فلا يكتُب ما كتبه غيره، ولا يتهيب الخطأ؛ لأنه سيكون الأول في هذا الميدان، والنقص واردٌ في الأوليات، بل سيكون حافزا للتصويب والتطوير، أما أن يرد الباحثُ بئرا نزيحة فهذا أمرٌ مُزعجٌ، ولا فائدة منه.