سلطنة عُمان تحتفل بالعيد الوطني الرابع والخمسين المجيد المجيد
Adsense
مقالات صحفية

غزّة، قصّة الإنسان، وقضية الميزان

ثريا بنت علي الربيعية

غزّةُ، عزّة العُربِ والإسلام قاطبة، نبض قلوب شرفاء العالم، تلك البُقعة المباركة من أرض الرباط؛ أرض فلسطين الزكية التي اعتنقت المسجد الأقصى أولى القبلتين ومسرى الرسول ﷺ ومعراجه، هي بوصلة الأحرار التي عبقت مِسكاً بدماءِ شهدائها عبر ثنايا التاريخ المتعاقبة، حيث تُعتبَر من أقدم المُدن المأهولة سُكّانياً في العالَم؛ فقد سكنها البشر قَبل حوالي 3000 سنة مَضَت، وقد ذكر المؤرخ “العارف” في كتابه تاريخ غزّة: أن هذه المدينة ليست كأيّ مدينة وليدة عصرٍ من العصور أو بنت قرنٍ من القرون، إنما هي وليدة الأجيال المنصرمة، ورفيقة العصور كلها، فكان اسمها محفور في ذاكرة التاريخ منذ الصفحات الأولى، ولها وجود في كل زمان، بدءاً من تأسيسها في العصور القديمة كمملكة سبأ، ووصولاً للكنعانيين والفراعنة المصريين، ثمّ تأتي غزّة في عهد الرومان والعصور الوسطى، ولاحقاً في عهد الفتح الإسلامي والدولة العربية، فقد دانت لفاتح تارةً، واستعصت على جبار تارةً أخرى، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلُنا على عراقةِ هذه المدينة ومكانتها.

فضلاً عن ذلك، فقد عَبر تاريخُها الطويل بالعديد من الأسماء، والألقاب؛ فقد سُمِّيت في عَهد الكنعانيّين ب(هزاتي)، أمّا العرب المصريّون فقد أطلقوا عليها اسم (غازاتو)، غير أنّ تسمية (غزّة هاشم) نسبةً إلى جدّ الرسول ﷺ هاشم بن عبد مناف؛ حيث زارها ودُفن فيها هي الأشهر والأجمل على الإطلاق. وفي كل عهدٍ لغزّة قصّة، ولكل معركة تضحية وشهداء، حتى صارت رمزاً لقوة الإنسان الفلسطينيّ وصلابته في التمسّك بحق نضاله، وقد سطّرت قصتها وأثبتت قضيتها بدماء الكرامة في التاريخ الحديث منذ النكبة الفلسطينية الأولى عام ١٩٤٨م، وهي تدافع عن حقها المشروع للعيش بسلام وحرية، كما وصف ذلك الشاعر محمود درويش في أبياته قصيدته: “سلامُ لأرضٍ خُلقت للسلام.. وما رأت يوماً سلاماً.. ما دُمتُ أحلمُ فأنا حيٌّ، لأن الموتَى لا يحلمون”.

بَيد أن قصة غزّة هذه الأيام متفردة، إذ لم يُشهد مثلها في التاريخ الحديث، ولم تُنتج أفلامها الحقيقية في هوليود الغرب، بل هي أصعب ما مرت عليه الإنسانية من طغيان في عالم متناقض تتلاطمه قوى الاستبداد الجائرة، غارقاً في بحر ازدواجية المعايير، حتى قُلبت الحقائق إلى باطل وتزييف، والخير إلى شر مستطير، وبمجرد أنْ بدأ طوفان الأقصى فقد أزاح الوشاح الذي ستَر المخبوء، وكشفَ القناع عن بلدانٍ وأمم لطالما تبنّت شعارات حقوق الإنسان، بل وأسست المنظمات، ومثّلت المواثيق الدولية؛ كي تخدع العالم في أضحوكة حِفظ الحقوق، فكان تضليل الواقع أسلوباً واهياً من أساليبها، وليس أدلّ على ذلك مما نراه من حرب إبادة ومنظومة مؤسسة للقمع والهيمنة الصهيونية على شعب أعزل مضطهَد، يتزعمُها مجرم حرب منتهجاً سياسة تجويع وحصار ما يزيد عن مليونَي فلسطيني، وبعد هذه الانتهاكات اللاإنسانية يصفق لِما جنت يداه في المحافل الدولية ويمجّدُ صنيعه، فعن أيّ حقوق نتحدث، وأيّ عدالة هذه؟
والأصل أن تقف أمة الملياري مسلم بما تملك من عتاد وعدة وجيوش لردّ العدوان الظالم ونصرة المظلوم، فكان من المفارقة الهزلية موقف الخذلان والتراجع؛ وإن كان من باب حق الأخوّة الإنسانية إغاثة الملهوف، فقد عجزت أغلب الدول عن بيان تصريح موحّد يردُّ اعتبارها؛ فبدت بمظهر الصامت المكبّل الذي لا يقدر صرفاً ولا عدلاً، لتعطي صورة مشلولة للعالم العربي والإسلامي، وإنّها لحقٌ انتكاسة كبيرة.

وعلى كل حال ما زالت غزّة جامعة مفتوحة تُدرّس منهج القيَم والاستقامة واقعاً، وكأنها تعيد الميزان إلى صوابه، الميزان الذي أمر اللهُ ﷻ بإقامته، كما جاء في الكتاب العزيز: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} ( سورة الرحمن: ٩). فكان أهل غزّة أهلٌ لإقامة لسان العدل والرباط في سبيل الله بمنهج ثابت، لتتقلد هذه الفئة المؤمنة بقوة اليقين وسام الشرف ولواء العزة، وقد نالوا مفاخر يعجز اللسان عن وصفها؛ إذ صدقت قلوبهم أن حُب الوطن من مقدمات الإيمان، فتحرر فكرهم واتجهت مشاعرهم لتحقيق مبادئ الميزان الحق.

في حقيقة الأمر علّمتنا غزّة أن تربية الرجال الأحرار هي عماد كل أمة، فباتت أرضاً خصبة أنتجت قدوات عملية لا مثيل لها في هذا الزمان، وقادة صادقين اشتروا الدار الآخرة بالدنيا ومافيها؛ وليس من المبالغة أننا نشهد مجاهدين تمثّلوا في استقامتهم ما وصلنا عن الرعيل الأول من الصحابة والتابعين، وكأنّ معركة طوفان الأقصى تذكرنا بمعارك المسلمين الأوائل لتحرير البلدان من قوى الكفر.

ولا ننسى الصورة المشرفة التي قدمتها الأمهات على أرض القدس، فكانت أبلغ من الكلام، وهنّ يتمثلنَ آيات الصمود وغايات الصبر؛ فتعجبُ من ثباتها رغم هول الموقف وهي تمسح بمسحة الرضا على أشلاء أبنائها لتودعهم الوداع الأخير، محتسبةً أمرها لربها بقول: “اللّهم خُذ منا حتى ترضى”، وكذا صورة الأب الحنون وهو يحمل جثة ابنه الوحيد ناظراً إلى السماء، فتطمئن روحه أن العوض في الآخرة أكبر من الفقد، وحتماً صاغ أطفال غزّة آيات من البطولات، حين تشربت قلوبهم الصغيرة قبل عقولهم عمق القضية، ووجوب التضحية لأجلها وإن كان مقابل طفولتهم التي سُلبوا حقوقها، بمقدار ما شابت رؤوسهم قبل أوانها مما رأوا من مشاهد قاسية -أشبه بأفلام مرعبة- كانت أكبر من مخيلة طفل غاية ما يرجوه يوماً آمناً ونوماً هانئاً.

بالتأكيد هذه النماذج الحية لم تصل إلى هذا المقام إلا بالتمسك بالمبدأ والعمل به، ولهذا ندرك تماماً أن بناء ذات الإنسان وكيانه أعظم من بناء المدن السياحية، والملاهي الترفيهية التي تتهافت عليها معظم الدول متناسية حاجتها للعودة إلى دستور مكين، يصونها من فتن العابثين بقيمها وأمنها.

من زاوية أخرى صارت أكبر معاناة لإخواننا في غزّة أن يحصل كلٌّ منهم على شبه خيمة تأويه، وكيس طحين ليعيل أبناءه الجوعى، بل أن يمُر يومه بسلام دون فقد، متشبثاً بالأمل والثقة، فعلى أرضه ما يستحق الحياة، وعلى خلاف ذلك هناك من أبناء عروبته من انغمس في مظاهر الترف، للحدّ الذي لم يستطع أن يقاطع قطعة شوكلاته، أو براند لباسه الفاخر، ولعله يتجرأ بالتصريحات المسيئة لمبادئه، متغافلاً ضمنياً عن واجبه الديني بدعوى أنها ليست بقضيته، فالبون شاسع ما بين الحالين كالفرق بين السماء والأرض. ولما تتوالى الصور والأحداث على أرض الرباط نستلهمُ منها أن أرض غزّة تحررت بفكرها النقي عن سموم التبعية والذل، فتجّلى أبناؤها في ملحمة الحرية مقدمين أغلى الأثمان، وفي المقابل من ذلك تحجّر فكر دول وحكومات تمتلك الثروات الطائلة، ولهذا تنشد المثالية بقوانين المدينة الفاضلة؛ لذلك ظهرت كالمعاق فكرياً وحركياً، وصارت تنتظر الخلاص من قوانين دولية لا تُسمن ولا تغني من جوع.

ولا مناص من القول أنها معركة غير متكافئة، إلا أنّ أبطال المقاومة أرعبوا قوى الطغيان بملحمة الجهاد والاعتصام؛ فما صنع ذاك المقاتل النحيل البنية، الحافي القدمين حين سلّم روحه للقدر، متحدياً مدرعات مزودة بأدق المواصفات وأحدثها، فأنّى لرجالٍ هذا عهدهم أن يُهزموا ويركعوا؟ فرجحت كفة غزّة، وشهد التاريخ أنها وفّت الميزان، صامدة أبية في وجه كل مجرم ومتصهين.

بالطبع ليس من سمع كمن رأى وعاش مع الحدث، فالواقع يخبرنا أهوالاً أعظم من ذلك، وما زالت قصص غزّة تُسرد في واقع مأساوي تخطّى حدود المعقول، وممارسات عدوانية تقشعر لها الأبدان، يشوب ذلك صمت مشين لعالم متلون، بيدّ أن غصن الزيتون سيظل ينشد السلام والنصر الموعود لا محالة؛ كحال أهله الصامدين حين انعدمت لديهم كل مقومات الحياة لكن أرواحهم فاضت بالكرامة، ورغم الجراح النازفة لكنها بذلت لتضمد جراح هذه الأمة المكلومة في عزتها.

فلتبقى غزّة آخر شوكة في نحرِ العدو الغاصب، تذود عن حياض المسجد الأقصى وقدسيته، ولا بد أن نجزم: “أن المقاومة فكرة، والفكرةُ لا تموت”.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights