الهروب للهلاك (الجزء الأول)
خلفان بن علي بن خميس الرواحي
سقطت على الأرض.. حاولت النهوض، ولكنها لم تستطع، رفعت صوتها؛ لعل ذلك الشيء الملقى داخل غرفتها يسمعها، حاولت عبثا في ذلك.. تحبو قليلا نحو ذلك الجدار المتشقق؛ لعله يعينها على الوقوف.. تصل إليه منهكة القوى.. تجلس وتسند ظهرها إلى الجدار بجوار شق عريض تستطيع الشمس من خلاله أن تنفذ وتضيء الصالة التي لا تحوى غير بساط متهالك.. تصرخ من جديد بصوت أعلى؛ لعلها تستيقظ تلك الجثة الهامدة على ذلك الفراش الممدود في طرف الغرفة، وقد غطى نفسه بلحاف متمزق.. الرائحة التي تعودت عليها منذ أن ارتبطت بهذا الإنسان تنبعث في المكان.. تنظر إليه وتتأمل أن ينهض ليكون لها عونا، ولكن هيهات؛ فهو في حاجة لمعين أكثر منها.. ترفع رأسها وتغط في نوم عميق مع الألم الذي تعاني منه، ولكنها نامت.. تحلم.. وفي الحلم أمور كانت تخفيها عن الكثير.. غرقت في الحلم.. كانت صغيرة تلعب في فناء المنزل مع إخوانها.. هي أصغرهم سنا، كانت الفتاة المدللة بينهم.. لم يرد لها والدها طلبا، كان يرغب أن يكون لها الأب والأم في وقت واحد.. ماتت الأم وهي ما زالت صغيرة لم ترها من قبل. أختها الكبرى كانت هي الأم لها ولإخوانها.. مرت الأيام سريعة، ولم يبق في البيت غيرها مع الوالد الذي تقدم به العمر، وأصبح لا يقوى على الحركة، فكانت هي من يقوم بكل واجباته.. إخوانها كانوا لا يأتون لزيارة والدهم إلا نادرا.. الكل انشغل في حياته..، وأصبح حضورهم نادرا في أيام العطل الرسمية والمناسبات تركوا البلدة، وظلت هي مع أبيها تحسن إليه.. لم تتزوج.. كانت ترغب في الزواج، وتقدم لها الكثير، ولكنها ترفض لحاجة أبيها لها.
انهارت صحة الوالد، ونقل إلى المستشفى، ولم يطل به الوقت، ففي يوم نقل إليها خبر وفاته.. حزنت كثيرا، ولكن ليس بيدها أمرٌ.. كان الحزن أكثر عليها من كل إخوانها، فلن تجد بعد موته من تأنس به في وحدتها.. دارت بها الدنيا ماذا تفعل؟ أين تذهب؟ هل يقبل بها أحد الإخوة أو الأخوات؟ كلها أفكار تدور في ذهنها الآن الكل حولها، ولكن بعد أيام العزاء الكل سوف يعود لبيته وحياته، وتستمر هي في الحياة وحيدة كما كانت.. كانت الوحدة متقطعة في حياة الوالد، أما الآن فستكون مستمرة لن تقابل إلا جدر البيت وأبوابه والغرف المقفلة منذ سنين، والتي لم يدخلها أحد إلا هي أحيانا.. مرت أيام العزاء سريعة، وبدأ الإخوة في العودة لحياتهم الطبيعية، ولم يذكر أحد منهم أخته الصغرى، كانت تودعهم وفي جوفها حرقة مكبوتة لم تظهرها لهم، كانت تبتسم وتلوح بيدها مودعة لهم.. لم يفتح أحد منهم فمه، وقدم لها عرضا بأن ترافقه وتعيش معه بدل حياتها وحيدة بعيدة عنهم..، اختلقت لهم الأعذار ربما في الأيام القادمة أحد منهم سوف يتصل بي أو يأتي ليأخذني معه..، كل يوم كانت تنظر، ولكن يغيب أملها..، انقطعوا عن البلدة وكأنها ماتت مع الأب..، وفي يوم جاؤوا ففرحت بهم..، ولكن كان هناك سبب آخر لحضورهم..، عندما جلسوا وكان معهم أحد كبار القرية، فقد استغربت حضوره معهم وشخص آخر لا تعرفه، ولكن ملامحه تقول: إنه من نفس البلدة.. كان ينظر إليها كثيرا.. لم تعرف سر تلك النظرات، وعندما ينظر إليها كان يبتسم، لم تعره أي اهتمام، كان تفكيرها في الهدف الذي جعل الإخوة يحضرون إليها بعد انقطاع لمدة طويلة..، قدمت لهم القهوة وما كان لديها..، ثم تحدث الأخ الأكبر (خالد): سكت قليلا وهو ينظر لمن حوله، ثم بدأ الحديث.. نحن نعرف أنك تعيشين لوحدك بعد وفاة الوالد..، ونحن كل في حياته..، والحقيقة لم نعرض عليك أن تأتي معنا..؛ لأن لكل منا حياته وارتباطاته، ومن الصعب أن تستمري أنت في الحياة وحيدة..، ثم أن هذا البيت لا بد أن يباع حتى نقسم التركة..، انصدمت ونظرت إليه والدمعة تكاد تحرق وجهها، وهي تنزل مكرهة من عينيها، وقالت له: الآن تريدوا إخراجي من المكان الذي يسترني أين سأذهب..؟ هنا ولدت وهنا كنت أموت. الكل ينظر إليها ولم يتكلموا، وفي ذلك الصمت نطق الرجل كبير السن، وقال: لذلك نحن جئنا مع إخوانك (يشير إلى الشاب الذي معه).. قاسم.. يريدك زوجة له، وقد حدثت إخوانك في الأمر من قبل، وليس لديهم أي مانع، فقط ننتظر موافقتك عليه.. من هول الموقف تنهض وتتجه لأحد أركان الغرفة التي يجلسون بها، وتمسك بوتد كان مثبتا على الجدار، وتضغط عليه بكل قوتها، وكأنها تفرغ غضبها فيه.. وتنظر إليهم وتقول: موافقة.. لم تفكر لأن ليس لها مجال للتفكير.. الحل الوحيد الذي كان أمامها هو الزواج من أي شخص كان المهم أن يكون لها مكان يسترها آخر الليل.. الرجل: الحمد لله رب العالمين.. (مرة أخرى يشير لشاب)، قاسم رجل طيب وخلوق معروف في القرية بالصلاح، وإخوانك سألوا عنه، والكل أثنى عليه. خالد: نعم، ونحن لا نلزمك بالزواج منه..، ولك القرار والحرية في القبول أو الرفض..، كل من يحيطون به يهزون رؤوسهم دون حديث بالموافقة على كلامه.. خالد: موضوع الزواج الآن قد انتهينا منه، وما بقى من ترتيبات سوف تكون فيما بعد..، نأتي لموضوع البيت. يعود الرجل المسن مرة أخرى للحديث: بما أنكم في نية لبيع البيت وتقسيمه المبلغ عليكم؛ فأنا مستعد لشرائه.. والمبلغ الذي تحددونه له.. لا أحد يتحدث من الإخوة إلا خالد، وهي تنظر إليهم، وتقول في داخلها: هناك لعبة تمت قبل هذا اللقاء، لقد جهزوا كل شيء، والآن وقت التنفيذ.. تم الأمر سريعا؛ بيع البيت، وتزوجت الأخت الصغرى، وتم تقسيم التركة .
سقوط شيء ما فوقها أيقظها من النوم، وانتبهت بأنها كانت تحلم وتستعيد شريط حياتها الماضية..، لقد تحركت تلك الجثة الهامدة من داخل الغرفة، ولكنها لم تستطع مواصلة السير؛ فقد اصطدمت بكسار سرعة بالطريق أنه جسدها هي..، حاولت أن تحركه من فوقها بكل قوتها..، دفعته إلى الأرض..، ونظرت إليه..، كنت أنت الخلاص، ولكن للأسف، كنت أنت بداية الهلاك .