2024
Adsense
أخبار محليةقصص وروايات

قصة / حياة في كوخ (الجزء الثاني والأخير)

خلفان بن علي الرواحي

في أحد الزوايا جلس ينتظر الشيخ تحت شجرة يقطين، في جلسته تذكر قصة سيدنا يونس وكيف أنجاه الله تعالى من بطن الحوت، فقال في نفسه: إنَّ الله تعالى سينجيني مما أنا فيه من أوجاع.
كان يراقب الدرب.. رأي الشيخ قادمًا.. ناداه بكل أدب واحترام.. شيخي.
الشيخ: أهلا حمد .. تفضل ماذا تريد؟
حمد: لا شيء.. أفضالك كثيرة علي ولكن لي بك حاجة.
الشيخ: قل حاجتك ولا تخش شيئا.
حمد وهو يخرج الصرة التي بها المال ويناولها للشيخ: هذا بعض المال كان معي لسنوات طويلة حافظت عليه لهدف معين.
الشيخ: بإذن الله خير.
حمد: أريدك أن تنفق هذا المال عليَّ بعد موتي.
الشيخ: كيف ذلك؟!
حمد: بعد موتي لن أجد من يهتم بي، سواءاً بالغسل أو الدفن، فالناس تهرب مني وأنا حي، فكيف بعد موتي، وبهذا المال قد تجد أجيرًا يقوم بواجبي بعد موتي.
حينها سقطت دمعة من عين الشيخ دون أن يشعر ويقترب من حمد، ويرْبِت على كتفه: بعد عمر طويل بإذن الله تعالى، والأعمار بيد الله تعالى، فربما أنا أتقدمك وتكون أنت من الذين يحضرون وفاتي ودفني.. فلا تخف.. ثم يأخذ الشيخ الصرة من حمد.. ويردف قائلًا أن مت قبلي فسوف أحرص على تنفيذ وصيتك، وإن تقدمتك ستجد مالك مع أولادي..

ثم بعد ذلك يغادر الشيخ ويترك حمد وقلبه كله حزنًا على الحالة التي وصل إليها حمد؛ حيث لن يجد من الذين عاش معهم من يقوم بواجباته بعد موته، ويردد الشيخ في نفسه: إنّا لله وإنا إليه راجعون .. نسأل الله السلامة وحسن الخاتمة..

ما زال حمد في مكانه ويراقب الشيخ وهو يختفي بين الحقول والبساتين.. الآن أصبح لا يراه.. قرر العودة لكوخه، فقد قاربت الشمس على المغيب.. متثاقلًا يمشى وهو يودع المكان بنظراته الموزعة على المكان.. كل تلك الطرقات سارت عليها ( مريم ).. هنا جلست.. وهناك أكلت.. وهنا كنا نلتقي أنا وهي.. جلست في ذلك المكان طويلًا تحت شجرة البيذام ذات الأوراق العريضة ولكن جذعها لم يبق كما كان.. لقد تساقطت الكثير من الأركان بمرور السنين..
يواصل حمد المسير في دربه إلى كوخه.. يصل ثم يتوضأ للصلاة ليس كالعادة.. لقد غسّل جسمه كاملًا بالماء وتوضأ بعد ذلك! والغريب أنه لم يشعر بالوجع كالعادة، ثم تناول ثوبًا جديدًا نظيفًا.. ليس ثوب العيد.. ولبسه فأحسَّ حمد براحة لم يحس بها من قبل.. فرش سجادته وصلى.. أطال في الصلاة.. كرر الدعوات لله تعالى.. كانت سرًا بينه وبين ربه.
بعد أن فرغ قال في نفسه: هناك شيء باقي من مرقة اللحم والخبز سوف آكلها للعشاء وأشرب عليهما قليلًا من الماء وأرتاح لوقت صلاة العشاء.. نام نومته كالسابق.

رجع الشيخ إلى بيته بعد أن صلى في مسجد القرية، ونهض بعد الصلاة متحدثًا للمصلين وأخبرهم بقصة حمد معه فتعجبوا من موقفة! وأخرج صرة النقود وقال لهم: هذه النقود أمانة عندي لحمد، أن مت قبله تجدوها مع أهلي كما هي لم تفتح.
في البيت جلس الشيخ مع أسرته وأخبرهم القصة وأخرج الصرة، وقال لهم: هذا المال لحمد وهو أمانة عندي..
الأيام لدى الشيخ رتيبة.. بعد العشاء يجلس مع أسرته حتى صلاة العشاء وبعدها يعود لبيته لينام.. حاله كحال بقية أهل القرية.
لم يفتقد أحد (حمد) الذي لم يخرج من كوخه لأكثر من يومين إلا الشيخ الذي انقطع عن زيارته في اليومين الأخيرين.. وفي اليوم الثالث كان في الحقول وتعود رؤية حمد يسير بينها مرة في الصباح وأخرى بعد العصر ولكنه لم ينتبه لوجوده في الفترة الماضية؛ فدار في ذهنه أن يذهب ويراه.. عندما وصل الشيخ لفتحة الكوخ نادى ولم يجبه أحد، ثم رفع صوته أكثر.. كذلك لم يجد ردًا؛ فقرر دخول الكوخ..
دخل إلى الكوخ فتعجب مما رأى! الكوخ كما هو ولكن ليس هناك أثر لحمد .. أين ذهب؟! سأل الشيخ نفسه وخرج يبحث حول الكوخ ربما خرج لقضاء حاجة، ونادى بصوت عالٍ في الاتجاهات المختلفة..
حمد لا يستطيع الذهاب لمكان آخر.. قدماه لا تحملانه مسافات بعيدة..!
حينها أبلغ الشيخ أهل القرية بفقد حمد ولا بد من البحث عنه.

بدأت القرية في البحث في كل شبر في القرية ولم يجدوا لحمد أثرا.. سألوا الجميع والكل كان يرد بالسلب؛ لم نره.. لم يمر علينا، وبدأ الناس بنشر الإشاعات.. كل مجموعة تؤلف قصة حول اختفاء حمد.
دخل وقت صلاة الظهر ورجع الناس لبيوتهم يأخذوا وقتًا للراحة وتناول الغداء وأداء الصلاة قبل ذلك وبعدها يستأنفون البحث من جديد.. رجع الشيخ لبيته متعب وجلس مع أولاده يضعون العديد من الاحتمالات لاختفاء حمد.. قد يكون هناك خيط لعملية البحث بعد صلاة الظهر.. صوت من الخارج ينادي على الشيخ.. يا شيخ مسعود.. يا شيخ مسعود.. يخرج الشيخ مسرعًا وخلفه ولداه الذكور. الشيخ: خيرا إن شاء الله.. ماذا ورائك يا صالح؟
صالح: لقد وجدنا حمد.
الشيخ: الحمد لله رب العالمين.. وهل عاد إلى كوخه؟
صالح: وجدناه ميتا.
الشيخ: إنّا لله وإنا إليه راجعون..
يطلب من أولاده أن يرافقوه إلى حيث جثمان حمد.. ويسأل صالح: أين الجثمان؟
صالح: في المسجد.
الشيخ: في المسجد!!! يا لها من خاتمة طيبة.. نسأل الله تعالى له الجنة.
يخرج الشيخ مسعود وخلفه صالح وابنيه باتجاه المسجد، وعندما وصلوا كان أهل القرية قد تجمعوا حول المسجد ولم يدخله أحد إلا صالح الذي جاء ليرفع أذان الظهر..
تقدم الشيخ مسعود وخلفه صالح الذي لم دخل المسجد لأذان الظهر عندما شاهد الرجل المتمدد في المسجد وتعرف عليه من وجهه وملامحه..
في بطئ يتقدمان حذرًا بسبب مما يعاني منه حمد.. يصل الشيخ وينظر إلى صالح: نعم أنه حمد ولكن هناك أمرًا غريبا.. يا سبحان الله! يتقدم الشيخ بكل جرأة ويزول الحذر منه.. وينادى على صالح: صالح انظر..!
يتقدم صالح ويفتح عينيه ولم يصدق ما يرى.. يا الله أين ذهبت تلك الشقوق الغائرة في أقدامه.. ما هذه النظارة في وجهه كأنه ولد الساعة!
يخرج الشيخ من المسجد ويتحدث إلى أهل القرية: لقد توفي حمد وشافاه الله من كل الأمراض التي كان يعاني منها وعاد جسمه نظيفًا طاهرا..
كل الناس تنظر لبعضها البعض وهناك تهامس وأحاديث جانبية.. هل هذا معقول؟! ترتفع عنه الأمراض ويموت.. ماذا فعل قبل أن يتوفى لتكون خاتمته هكذا؟!
الشيخ مسعود: سوف نصلي الظهر وبعدها نقوم بواجب جثمان حمد.. الكل في شوق ولهفة للنظر للمعجزة التي حدثت لحمد وذهاب الأمراض عنه.. الكل يدخل وينظر إليه في عبرة واحتقار لنفسه.. كيف كانوا يبتعدون عنه في حياته واليوم عند موته هم يتسابقون لرؤيته!
صلى الجميع وبعد الصلاة أُخرج جثمان حمد من المسجد وذهب به إلى مغسلة القرية.. تنافس الجميع على المشاركة في غسله وتكفينه، والكل كان لديه الاستعداد للمشاركة، في حين كان حمد يخشى أن لا يجد أحدًا للقيام بذلك!
أهل القرية هالهم الأمر.. لم تشهد قريتهم جنازة مثل هذه.. من أين حضر هؤلاء؟! وعندما أمر الشيخ بالصلاة.. لم يكن صفًا واحدًا.. بل صفوف عديدة.. وفي المقبرة.. القبر كان مختلفا.. حيث التربة طرية ندية تنبعث منها رائحة زكية! نزل الشيخ ومعه ولداه ووضعوا حمد في قبره.. ودعا له بما فتح الله عليه به وأقيم العزاء لثلاثة أيام.. ولم ينفق الشيخ من مبلغ حمد شيئًا فالكثير من أهل القرية قدموا التبرعات لعزائه..
مات حمد وانتقل لجوار ربه، ولم يعرف السر الذي كان بينه وبين ربه حتى تكون خاتمته هكذا.. ذهب الشيخ ومعه بعض أهل القرية لكوخ حمد والبحث في أشيائه فلم يجدوا ما يذكر غير صورة ( مريم ) التي احتفظ بها لسنوات عديدة.. رفعها الشيخ، وقال لمن معه: عاش طوال حياته يحبها ولم يكن أحد معه غير صورتها…
أخذ الشيخ الصورة وأمر بهدم الكوخ وإحراق كل ما فيه.. وهكذا قد رحل حمد..

تأليف/ خلفان بن علي بن خميس الرواحي

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights