مَن أضاع هيبة اللحية؟
أحمد بن سليم الحراصي
لن أزيد شيئًا هنا عمَّا يعرفه العالم بأكمله أن اللحية تمنح الهيبة والوسامة والوقار والرزانة أيضًا للرجال، فاختلاف أسد عن لبوة تفرقها (اللبدة) كمظهر خارجي أستطيع تمييزه بين ذكر الأسد وأنثاه، واختلاف رجل عن امرأة تفرقها (اللحية) حتى ولو كانت خفيفة، فهي على كل حال تبقى ملامح رجل تميزه عن امرأة، ولكن الشيء بالشيء دائما يُذكر، فمهما أطلت اللحية لتتصنع بالوقار فلن تشفع لك حقيقتك التي تتخفى بها خلف هذه اللحية التي شوهتها وأضعت لها هيبتها، وأهنت كرامة الدين الذي تدين به فلا تطيل لحيتك وأنت لست أهلا لهذه الهيبة، ولكن يبقى الدين غنيا عن أمثال هؤلاء، فالدين بما تُقدمه وليس بما تُظهره.
ما أريد قوله هنا، هو رسالة لفئة المتصنعين بالتدين والرزانة والأخلاق والتمسك بالصفات الحميدة الإسلامية، تلك هي الفئة التي شغلتنا ومن جعلت صورة الإسلام والمسلمين تبدو هزيلة بنظر الباحثين عن الإسلام وحقيقته، ولكن هيهات؛ فإن الإسلام دين لا تغريه المظاهر، وإنما ينظر للمرء وما يبديه في أصالة معدنه وطهارة قلبه ولسانه ، فليس كل ملتحٍ يصبح متدينا ما لم يكن طاهر القلب والنية، فقد ثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إنَّ اللهَ لا ينظرُ إلى صُوَرِكم ولا أموالِكم ولكن ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم) “صححه الألباني”.
فكم من امرئ تصنع بالدين بإطالة لحيته وتقصير ثوبه وتعديل هندامه ليبدو كرجل طاهر وذي دين وخلق كريم، ولكنه لا يساوي نقطة من حرف الكلمة التي ننطقها (إسلام)؛ فقذارة لسانه، ونميمته بين الناس، ونشر الحقد والكراهية والمشاكل بين الطرفين، وحبه في التفرقة، وغيبته وبهتانه عمّن لا يرغبون فيه أو لا يرغب فيهم، كل هذه تسقطه في وكر النجاسات وضحالة الفكر، فلن تنفعه عبارة (أنا ملتحٍ يعني أنا مُتدين ومسلم).
إذًا، لا يجوز الحكم على الآخرين من المظهر، ولا يجوز الحكم على الإسلام بـ(اللحية) فقط، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده؛ فاللحية ليست مدلولًا وقياسًا على تدين الشخص، وليس بالأحرى أن تجعلك تعيش شريفًا بين القوم إلا إذا كنت تعيش بين جملة من الجهلة بالدين وممن الذين يبجلون أصحاب اللحى حتى ولو كانوا على خطأ؛ فهم دومًا على صواب، هذا إن كنت تعيش بين هؤلاء وليس بين مَن يميزون الشخص بالقول والفعل، فصاحب الدين هو الذي نشأ على أن يقول كلمة الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم؛ لأنه حفظ قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، (النساء: من الآية 135)، فلقد رأيت (حاخامًا) يهوديا ملتحيًا فهل حسبته حينها من أولئك الذين تعرفهم بالورع والوقار والخلق والدين؟
وأعتقد أنكم جميعًا من صادف الكثير من هؤلاء الذين يمتلكون لحية طويلة مشذبة ومهذبة، ولعلكم ظننتم فيهم خيرًا وصلاحًا واسحسنتم وجوههم وإطلالتهم البهية وذائقة لسانهم التي تخرج الطيب من الكلام والمعسول من السلام، ولكن قد لا يمكن أن يمتد هذا التصنع طويلًا؛ فالممثل لا يستطيع أن يتقمص دوره طويلا دون أن تكون هناك فواصل إعلانية تجعله يأخذ استراحة، فيسدل الستار وما وراء الستار ذاك سوى الحقيقة المرة التي لا تمثل ما يبديه أمام الشاشة، إذًا، هؤلاء القوم هم أنفسهم ممن ظننتم بهم خيرًا لوهلة ثم تغيرت نظرتكم عنهم سريعًا.
هؤلاء الذين يضيعون هيبة اللحية بحثًا عن الاحترام والتقدير الذي لن يلاقوه وهم حليقو اللحى؛ لأن واقعهم أشبه بمن يصرخ مستنجدا من بؤرة الفساد والشر؛ لذلك هم يتصنعون بحثًا عن الاحترام وبحثًا عمَّن يعطيهم السلطة الكاملة في التحكم والسيطرة بمصالح الناس، فنحن مصلحون ولا نريكم إلا ما نرى، فطاوعونا نهدكم سواء السبيل، ثم يُحلّون الحرام ويُحرمون الحلال، فيشتمون هذا، ويتآمرون على هذا، ويفسدون مصلحة إنسان لمآربهم الخاصة، فيصدقهم الناس؛ لأنهم أهل صلاح ودين، ولا يريدون لهم إلا كل الخير، وكل هذا بسبب لحيته المتدلية!.
لست ملتحيا، ولكنني أعرف ماذا يعني دين وأخلاق واحترام، ماذا يعني خطأ وصواب، وماذا يعني حق، وماذا يعني باطل؟ كما أنني لا أعترف بنزاهة الشخص من لحيته، ولست من الذين يرون أن اللحية مقياسا لدين وخلق، كما أنني لا أتهم أصحاب اللحى بقلة الوازع الديني؛ ولكن ولأن هناك فئة شاذة تحاول جاهدة إفساد هيبة اللحية وأصحاب اللحى مع أنني أعرف أناسا ملتحين أحسبهم من أهل الصلاح والله حسيبهم، وفي المقابل هناك أناس ملتحون ولكن أفعالهم تناقض مظاهرهم؛ لذا وجب عليَّ حينها أن أُبين للناس أن اللحية ليست ترخيصًا لخلق ودين الرجل، ولا يجب على الإنسان العاقل منا أن ينخدع للمظاهر، فالظاهر طهارة والباطن –غالبا- مجرد قذارة.