2024
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

الحِيلةُ حيلته

خليفة بن سعيد السعيدي

قبل أن أبدا بهذا التدفق من الكلمات،أرجو منك أيها القارئ أن تنطق (الحيلة حيلته) كما نطقتها تلك المرأة التي طمر إعصار (شاهين) قلبها بالخوف والوجل قبل أن يطمر بيتها بالطين والوحل ،بنفس اللكنة وبنفس النظرات للأعلى وإن تعجب فاعجب من تسليم أمرها لله وتلك الكلمتان التي انسابت على لسانها دثاراً وبرداً على قلوب المتضررين فيا ليقينهم! ولله الأمر من قبل ومن بعد ..

بعد أن هتكت الشمس أستار فجر يوم الجمعة في الثامن من أكتوبر، تحركتُ مثل الكثير من الناس لمساندة المنكوبين جراء إعصار (شاهين) ، كانت الحشود تتوافد زمراً من كل أقطار السلطنة للقيام بواجبهم تجاه إخوانهم ولكن المشهد يسقط جريحاً عندما ترى آثار الدمار ،مستنقعات من الوحل تغطي كل شيء ،السيارات منكوبات رأسًا على (كريل) ،الأنفاق ممتلئة بالحيوانات النافقة وحتى جذوع النخيل تأن تحت الطين وبين حواجز الشوارع….

وصلتُ إلى موقع العمل ، مسجدٌ يملؤه الطين حتى النوافذ مقتلعه من شدة زمجرة الماء فيه ،كان المشهد صادماً ومحبطاً،بدأ الأمر بعد أن صاح أحدهم (ولا جايين نخلصه اليوم) ولكن الحماس كان ظاهراً على الكثير من المتطوعين الذين هبوا من كل مكان ،بدأ الشباب بالتشمير عن سواعدهم وبدأت الجرافات (والشيولات) تأن تحت وطأة عضلاتهم ،فرُبَ (شيول) قال لصاحبه دعني من فرط العمل الشاق ورُبَ جرافة تقوست من كثرة جرفها للطين كل هذا بالدعم والتشجيع من (أبو جابر) قائد الحملة ،وهو رجل ملتحٍ هادئ القسمات ،ضحوك السن ،تقابلك أساريره وطيبته من بعيد ، حدث وأن تناولت شيول مهترئ للعمل فانكسر بين يدي،فقال (أبو جابر) معلقاً (ما شاء الله جاي بقوة شكلك خف شوية ولا بيتكسرن شيولاتنا).

وبدأت حرب المكانس والشيولات والجرافات تجتاح كل المناطق المتضررة بلا استثاء إلى أن حانت صلاة الجمعة والمتطوعين منهمكين في أعمالهم يتفصدون طينا ولكنه مسكاً بمقايس أبناء عمان ، فهتف هاتف (لا تبكِ الميتَ إذا مات، وابْكِ ظهر الجمعة إذا فات)ولكن إزالة الأذى عن بيت ،وإماطة الطين عن مسجد وتمهيد طريق وتفريج كربة كلها من شعب الإيمان ..

كانت تلك الجمعة جمعة التطهير بلا منازع ، فبعد أن خدش كورونا عاداتنا الاجتماعية وركنها على قارعة الانتظار ونفى الكثير من أحبابنا إلى البعيد، جاءت هذه الجمعة لتكفر عن حُرمة تباعد القلوب وقوارص الهلع والرعب التي خلفها كورونا.

يخيل إليك أنك جئت الباطنة لإزالة الطين عن المنازل ولكنك جئت لتشعل نور الإيمان الذي كان يضئ باطنك وشموع السكينة التي طالما آنست وحدتك ، يخيل إليك أنك جئت الباطنة لمساعدة المتضررين ولكنك جئت لمساعدة نفسك من آثار الهم والقلق الذي أجتاحته الضرائب وفواتير الكهرباء وتسعيرات الوقود ومشاكسات تويتر …
يخيل إلى الجميع أن شاهين جاء إلى عمان لتدمير الباطنة ولكنه جاء لينقذ البلاد من التردي في بحار الحيرة ومن الانغماس في انتظار قرارات اللجنة العليا ، ومن المبالغة في حشد غلالات الصدور المتشاحنة ،فيا لشقاء الباطنة قبل شاهين ! ويا لملحمة الباطنة بعده !

بدأت الأحاديث الودية بين المتطوعين تتغلغل في النفوس وبدأ الطين يتلاشى شيئاً فشيئا بهمة الجميع وبدأت ملامح المسجد تظهر ومعها خشوع المحراب وآثار جباه كل المصلين الذين مرو على هذا المسجد، حوقلاتهم، وحمدلاتهم وسبحلاتهم، وجموع المتطوعين لا يصدقون أنهم أزالوا كل ذلك الطين …

صلينا ركعتين بعد انتهائنا من التنظيف في نفس المسجد ،فامتلأت الأجواء بنسمات الخشوع والمحبة فشعرت وقتئذ بشعور طاغٍ بالسعادة مثل نسمة لطيفة على خد مجروح أو مثل خطاب السلطان بعد الإعصار الذي طبطب على جراح المتضررين، فكيف أصف لكم شعور جميع المتطوعين لحظتئذ أنه شعور لا يصفه الكلام ،فكيف يوصف شعور لم يذقه السامع ،فمن لم يلحق بحمول المتطوعين في ذلك اليوم المهيب بكى على الطلول .

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights