2024
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

الأمان “ربٌ ثم أبٌ”

حمدان بن سعيد العلوي
مدرب في الإعلام والعلاقات العامة

تبتسم الشفاه والعينان إلى السماء ناظرة ، يتحرك الرأس بلا شعور أو إدراك ، بإيماءات مملوءة بالحسرات ، إن من الذكرى ألم ، وعذاب وشجن ، ونحيب وسهر “كان أبي” ويقولون لا تقل كان أبي ، وأقول كان أبي وأكررها كان أبي ، ذلك الرجل العظيم الذي لا مثيل له ،نقرأ ونسمع عن الأب كثيرا وما قيل في الأب لن يوفي حقه ومن الكلمات المعبرة ما يدمي القلب ، رحل والدي وظل حبل الدعاء هو الوصل بيننا، اللهم افتح على قبره نافذة من نسائم بردك وعفوك ورحمتك لا تغلق أبدا ، لله در من قال : يا راحلين عن الحياة وساكنين بأضلعي هل تسمعون توجعي وتوجع الدنيا معي رحم الله أبي، وآبائكم.

كان أبي حنونا عطوفا طيب القلب لا يشبهه أحد ، كان يجوع لنأكل يشقى لنسعد ، تجاعيد وجهه ويديه تحكي قصة كفاح طويلة عبر الزمن ،كنت أشعر بالأمان حين أكون بجانبه، أفاخر به أصدقائي وأمتدحه في كل حين ، كيف لا وهو من عانى كثيرا من أجلنا ، كان أبي حكيما في تعامله هادئا مبتسما يخفي خلف ابتسامته آلاما كبيرة ، رحل أبي وبقيت ذكراه ، حين كنت صغيرا ظننت أنه سيعيش بجانبنا للأبد ، كان المربي والمعلم تعلمنا منه الأخلاق والأدب ،كانت كلماته دروسا وحكم ، كلما زارني في المدرسة أستاء جدا إذا وبخني معلمي أمامه ، لكنني حين يغادر أبي تثلج صدري كلمات معلمي حين يقول عنه بأنه مرب فاضل أعطى وقلَّ من يعطي مثله من العلم والأدب في هذا الزمن ، حينها لا تسعني الفرحة وأشعر بحماس شديد ما يدفعني إلى المثابرة والاجتهاد لأكون مثل أبي ، كان أبي يعلمني القرآن قبل دخولي المدرسة ، كان حافظا للقرآن وتفسيره فقيها عالما بالنحو والتجويد ، بل كان معلما للقرآن يجوب القرى ليعلم الناس كما كان يحكي لنا ويحكون لنا أصدقائه من بعده ، كان يقول الحياة دار صغيرة تدخل من هنا وتخرج من هناك ، حينما بدأ التعب الشديد على أبي بسبب تقدم العمر أدركت بأن النهاية افتربت ولكن العلم عند الله ، حينما يغفو كنت أراقب أنفاسه خوفا من انقطاعها ورحيله ، حتى اشتد عليه المرض ودخل إلى المستشفى وكان قلبه متعلقا بالمسجد والبيت فقد كان يبكي وينادي باسم أختي الصغرى التي كانت تعتني به ويطلب منها أن تسقيه اللبن، وإبريقا للوضوء ، فأوقات الصلاة مبرمجة في عقله والقرآن والأذكار لا تفارق لسانه ، لم أتحمل رؤيته وهو عاجز على السرير، حيث طلبت من الأطباء إخراجه على الفور فإن أخذ الله أمانته لا اعتراض ولكنه سيشعر بالارتياح وهو قريب منا في المنزل ، وبالفعل تحسنت أحواله ولكنه أصبح لا يقوى على الحراك ، كنت أقرأ عليه القرآن والأدعية كلما شعر بالتعب والإرهاق ، وكان يبتسم ويحرك رأسه ويقول الآن دورك أنت ، فقد كان يقرأ القرآن عليَّ كلما مرضت منذ أن كنت طفلا ، عاش بعد ذلك لمدة عام تقريبا وهو نحيل الجسم (جلد على عظم) ولكنه يسأل عنا جميعا وعن أبنائنا الصغار إن لم يراهم، رغم ضعف نظره وتعبه الشديد لم يترك صلاة يتذكر أوقاتها وينادينا من أجل حمله وإيصاله للوضوء ، لسانه يقرأ القرآن ويذكر الله بلا توقف ،أحيانا حتى على فراش النوم نسمع صوت قراءته ودعائه، حتى تعب في يوم من الأيام وكان يقول لإخوتي هذا ليس مرضا ، ويكررها هذا ليس مرضا ،دخل المستشفى اليوم الأول في العناية المركزة ، كان يتحدث ويطلب الذهاب للوضوء والصلاة وهو لا يعرف أنه مقيد بجهاز التنفس المساعد ، إلى أن دخل في غيبوبة حسب ما أفاد الأطباء ، وقد صارحونا بأن نسبة حياته خمسة في المائة فقط ، تأثرنا كثيرا وكنا ندعو له ولكن إيماننا بالقضاء والقدر وأن لكل أجل كتاب وإن الله سبحانه وتعالى بيده الأمر وأن لا حول ولا قوة لنا إلا بالله كانت تهدئ منا خوفنا عليه وإنه بأمان ، اليوم الثالث تلقيت الخبر من أخي ، حيث قال بمكالمة هاتفية وأنا في مسقط (الوالد توفي رحمة الله عليه وانتبه لنفسك في الطريق وهذا قضاء الله وقدره) عدت مسرعا والدموع تنهمر بلا شعور حتى وصلت إلى البريمي وحين توقفت أمام البيت جفت دموعي وشعرت بإحساس غريب راحة نفسية وكأن أحد يقول لي (لقد ارتاح من الدنيا وهمومها) وهو في عناية الرحمن وحسب ما أخبرونا أن روحه فاضت إلى بارئها وهو يقرأ القرآن ، شعرت أنا وأخوتي بالسكينة ، والناس تبكي لما كان له من مكانة في قلوبهم ، رحم الله أبي طيب القلب سند الظهر ، سلام على عينيك النائمة ، جعلك الله في الفردوس الأعلى من الجنة ، رحم الله رجلاً لن يتكرر في حياتي ، كان ذخرا كان فخرا كان وطنا ، فإذا كانت الأم هي الحنان فالأب هو الأمان .

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights