كنوز خالدة من السير العطرة لأبناء الرستاق

خليفة الحسني،
2020khalufasaif@gmali.com،
كم نحن بحاجة واشتياق لسير الشخصيات الخالدة لولاية الرستاق، وما أنتجته من كنوز معرفية ثمينة، أسهمت بها في بناء تاريخ وإرث هذه الولاية العريقة، حيث كانت تلك الشخصيات المباركة بحراً من العلم خاصة في علوم الفقه، و اللغة، والأدب الرصين، وبعض الشخصيات برعت في علوم الطب والفلك، وغير ذلك من العلوم. وكان ذلك الجهد المخلص متوجاً بفصاحة اللسان وبلاغة في التعبير، وكانت تلك المواهب طوقت بسماحة الأنفس ومكارم الأخلاق، وهنا سأخط بقلمي المتواضع حول هذه المقامات الرفيعة مستجلياً بعض مآثرها الخالدة وهي بالطبع كثيرة لا أستطيع أن أحصرها في مقالات مهما بلغت، وفي هذا المقال المتواضع سأخصصه لمقام شيخ جليل من أبناء الرستاق، اتسمت سيرة حياته بالزهد والورع والعلم النافع الذي بذله تدريساً ودعوة إلى الخير والصلاح، وله من المواعظ التي تذكر بالله واليوم الآخر نصيب وافر، وكان لهذا المسار المتسم بالأمانة والإخلاص، ثمراً يانعاً ما نزال نحصده لنترسم خطاه على المنهج المستقيم. ونستخلص من هذا الاجتهاد رقياً في الفكر والأدب البليغ، رغم أن أبواب هذه السيرة لم تكن مشرعة وليس بالأمر السهل الوصول إليها، ولكنه بعزيمته الفذة استطاع أن يلج إلى دهاليز النجاح، والمتمعن فيما تركه الشيخ سيجد تلك الخصال الحميدة مخبوءة في رسائل ونصايح وإرشادات وفي شعر رغم قلته لكنه متعدد الأغراض، بالإضافة إلى ما تركه من ذكر حسن في صدور وألسنة الناس.
وهذا التناغم الكبير بين الصبر على الشدائد والثقة بالنفس، والعمل الجاد لإيجاد حياة كريمة له ولمن يعول، إلا أن المقام الأول عنده كان اعتبار الآخرة بأنها هي الملاذ الأخير من حياة الإنسان؛ فلذا سعى رحمه الله أن يوائم بين كل تلك العناصر، ومن هذا الفيض الكريم أمد قلمي بهذه الكلمات المتواضعة البسيطة، التي أعتبرها لا تفي سطراً من الموسوعة الكبيرة من هذه السيرة التي تحمل في جنباتها الكم الهائل من العلم الشرعي، واللغوي، والأدب الرصين، والثقافة الواسعة بأحوال عصره، نعم ما أذكره هنا في هذه السطور من تلك الاستحقاقات العظيمة التي أوردها الزمان في الرجال العظماء، وأشرقت طلائعها منذ أزمنة بعيدة، وكانت وما زالت مآثرها عظيمة بين ربوع العلم وبين منابر الحكمة وفضائل العدل، التي انتفع بها ربوع الوطن، واليوم أصبحت مرجعاً لمن يبحث عن هذه الكنوز الخالدة، ومن بين تلك النماذج شخصية مقالنا هذا، ولمعرفة هذه السيرة التي اتسمت بالطيبة وقناعة النفس، فإن ما خلفته من إرث علمي وسيرة عطرة، وما تحلت به من أخلاق فاضلة رفيعة، وكرم وسخاء صار مضرب المثل، لهو كفيل بأن يمدنا بالقدر الكافي لأن نبرز هذه الشخصية التي أضاءت سماء الرستاق بنور عطائها، نعم أيها السائل أعني بسطوري البسيطة هذه هو فضيلة الشيخ الأكرم الفقيه الأديب التقي غفر الله له ورحمه، إنه ناصر بن راشد بن ناصر بن سعيد بن مسعود بن محمد المنذري، نسبة إلى قبيلة المناذرة القحطانية الذي يمتد نسبها إلى النعمان بن المنذر، وكانت ولادته المباركة بمنطقة أم سيح بولاية السويق، نعم ولد بهذه القرية ليلة الثاني عشر من ربيع الثاني
1352 للهجرة/1931م عندما كان والده في هذه القرية مدرساً للقرآن الكريم ومعلماً لمبادئ علم الفقه الذي يحتاجه الإنسان إليه في عبادته لربه، ومعاملاته في هذه الحياة، حيث جاءت الدعوة إلى الأب راشد بن ناصر من وجهاء تلك القرية، ليقوم بذلك الشأن الرفيع وبتلك المهنة الجليلة، حيث بهذه الأعمال الكريمة كان رحمه الله بمثابة مرشد لهم وداعية، وتحت هذا الجو الإيماني ولد ونشأ الشيخ الكريم ناصر بن راشد، فكانت سيرة والده هي ثمرة تلك التربية المباركة له، ولما شب هذا الفتى ورأى الأب علامات النبوغ في ابنه توجه به إلى موطن العلم والعلماء ولاية الرستاق، حيث كانت تضرب إليها أكباد الإبل لطلب العلم على يد علمائها الأبرار، ولهذا سارع الشيخ راشد في إلحاق ولده بتلك الحلقات العلمية في جامع البياضة بالرستاق الأبية، وبما أن والده كان حريصاً على ابنه وخاصة وأنه سيكون بعيداً عن ناظريه فقد اختار له البيت الصالح ليعيش في كنف صاحب هذا البيت الرفيع، إنه الشيخ خلفان بن محمد المنذري الذي كان في ذلك العهد من وجهاء ولاية الرستاق وأعيانها الصالحين، ومن هذا المقام بدأ الشيخ في اللحاق بحلقات العلم وكان قد استثمر مواهبه التي وهبه الله إياها خير استثمار، فلم يدع سانحة في اقتناص العلم والمعرفة إلا اقتنصها، وبذلك الاجتهاد فقد بز أقرانه، ولهذا نضجت تلك الشخصية وهي ما تزال في باكورة عمرها، ولما رأى ولاة أمر الرستاق في تلك الفترة هذه الشخصية القوية لم ينتظروا طويلاً، وإنما أرادوا أن يبادروا في تكليفها بأعمال تنسجم مع قدراتها؛ فلهذا أوكلت إلى الشيخ ناصر الكثير من المناصب منذ صغره، وذلك لما يتمتع به من ذكاء وفطنة وأمانة، وكانت أولى هذه المهام هي جباية الزكاة، ووكالة أموال الأوقاف وبيت المال بالرستاق، وبالطبع هذه الوظيفة لا تُعطى إلا الأمناء النابهين، فلذا قام بهذه المهمة خير قيام، واستمر في هذه الوظيفة مدة من الزمن رغم تعاقب الولاة لولاية الرستاق، ثم تم اختياره فعُيِّن والياً على الحوقين وما يتبعها من قرى وبلدات.
وفي عهد السلطان سعيد بن تيمور تم تكليفه لأن يكون قاضياً في ولاية بدية التابعة حالياً لمحافظة شمال الشرقية، وفي عام ١٩٦٠م عُيِّن قاضياً بولاية المصنعة وبقي فيها حتى تسلم مقاليد الحكم في السلطنة السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، وفي عام ١٩٧٢م ، عُيِّن قاضياً بوزارة شؤون الأراضي بين الفترة ١٩٧٢م إلى ١٩٧٤، ثم عُيًِّن قاضياً بمحكمة مسقط الشرعية عام ١٩٨٥م، ثم قاضياً بمحكمة الأستئناف بالسلطنة وكان مقرها بمسقط، كما أنه انتدب قاضياً بلجنة التظلمات بديوان البلاط السلطاني، وهي أعلى مرجع قضائي قبل أن تنشأ المحكمة العليا، وبعد إنشاء هذه المحكمة عُيِّن الشيخ ناصر بن راشد المنذري قاضياً فيها في شهر مايو ٢٠٠١م، واستمر في هذه الوظيفة حتى وفاته رحمة الله عليه، ولما كان هذا الشيخ الجليل قاضياً لولاية المصنعة كان يُكلف بمهام منها القيام بأعمال والي الولاية، كما أنه يكلف بالعمل كقاضي لولاية السويق أحياناً، وأحياناً لولاية بركاء لجوارهما لولاية المصنعة، وذلك خلال غياب قاضيي تلك الولايتين، بالإضافة إلى تكليفه بالنظر في قضايا الاستئناف وخاصة في ولايات ساحل الباطنة، وفي المناطق الحدودية، نظراً لما يتمتع به من مكانة علمية وخبرة عملية.
وقد وهبه الله إبداعاً في التعبير، فلذا كان يصوغ الكلمات الرسمية ويلقيها أصالة عن نفسه ونيابة عن والي المصنعة خلال الاحتفالات بالأعياد الوطنية للسطنة، وكانت مضامين تلك الكلمات في عمومها الحث على معالي الأمور، ومنها محاسن ومكارم الاخلاق ومع تركيزه على أهمية تربية الجيل الجديد تربية صالحة التي من شأنها أن تسهم في بناء الوطن الغالي، وخاصة أن تلك الأيام بداية عصر النهضة المباركة التي أولت التعليم جل اهتمامها.
بهذه السيرة العطرة التي أمتدت عقوداً من الزمن لخدمة الدين الحنيف، وخدمة الوطن الغالي عمان، ونشر العلم وإرساء عدالة الشرع الحنيف؛ فإنني أجد نفسي قاصراً في إيفاء حقها مهما أبحرت في لجة تلك السيرة، ولا أستطيع بأن أصل في مضامينها ومنافعها، فهذا الإرث والتاريخ الفكري والعلم الراسخ وفصاحة اللسان وبلوغ سمو الحكمة هي التي أهلته أن يتسم في حياته تلك المهام، فأثمرت عدلاً في أحكامه، وسداداً في أعماله، حتى سمعت من يقول أن أحداً من أصحاب المقامات العلية يصف هذا الشيخ الجليل بأن الأرض القاحلة تخضر من تحت أقدامه، وذلك لعلو همته وحرصه الشديد على أن يحقق ما يصبو إليه في وقت يسير وبإنجاز متقن.
أما عن وفاته رحمة الله عليه كانت يوم ٢٢ /٤ /٢٠٠٣م بعد إجراء عملية قلب في الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها للأسف الشديد لم تكلل بالنجاح ،فعاش فى غيبوبة عدة أشهر حتى توفاه الله إلى رحمته الواسعة، وكانت له وصية إلى أولاده وأحفاده قبل مسيره للعلاج، وهي وصية جامعة فيها الكثير من التوجيهات التربوية وما يلزم الوقوف عندها، والتدبر والعمل بموجبها، ومن بعض بنودها عدم التهاون فيما أوجبه الله وأحبه لعباده في دينه الحنيف، وبما أن الصلاة هي الركن الذي تقبل به أعمال الإنسان أو ترد فإنه رحمه الله حث من وجه إليهم تلك الوصية الالتزام بمواقيت الصلوات الخمس، والمداومة على تلاوة القرآن وحفظه وتدبره، والتقرب إلى الله تعالى بشيء من السنن والنوافل، وخاصة من مثل ما افترضه الله على عباده المؤمنين كالصلاة والصيام، وكالصدقات الواجب إخراجها، والإكثار من البذل في أوجه الخير كلها، والمسارعة على أداء فريضة الحج والعمرة، وعدم ترك صلة الرحم والأقارب، وزيارة عباد الله الصالحين، وعيادة المرضى، وتهنئة المعارف والمشاركة قدر الاستطاعة في أفراحهم وتعزيتهم في أتراحهم، وعدم ترك طلب العلم النافع عموماً، والتفقه في الدين خصوصاً لما للعلم من أهمية في حياة هنيئة ومرد إلى دار الخلود في نعيم مقيم، والاقتداء بأهل الفضل والتقوى، واختيار القرناء الصالحين، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وعدم الفضول بالقول، والتواصي بالحق والصبر على البلاء، وأداء الحقوق لأهلها، هذه بعضاً مما تضمنته وصية الشيخ ناصر رحمه الله لأولاده وأحفاده، وقد حررها بيده الكريمة يوم ٢٧ /٥ / ٢٠٠٢م.
هذه الاستحقاقات الكبيرة التي زكيت بأقلام من عرف هذه الشخصية الفذة وعاصرها؛ فمن ذلك ما كتبه فضيلة الشيخ عبدالله بن راشد السيابي في كتابه عن الشيخ ناصر بن راشد المنذري حياته وآثاره رحمة الله عليه الذي تناول فيه سيرة الشيخ، وقد سرد فضيلة الشيخ عبدالله السيابي حياة الشيخ ناصر منذ النشأة، ثم أبحر بكلام لا يتسع المقام لذكره متناولاً السيرة العلمية والعملية، وبهذه الصفات العظيمة، والتقدير والعرفان فإن ذلك في نظري لم يأتِ من فراغ، بل من مآثر هذه السيرة للشيخ ناصر كانت وما زالت كنز علمي ثقافي تجلت في مجمل أعمال الشيخ ناصر الحميدة، وفي مجمل مسار سيرته العطرة، وكانت مؤطرة بالإحسان ومكارم الأخلاق وبكل خصال عظمة الرجال.
ومما ورد في تقديم سماحة الشيخ الجليل أحمد بن حمد الخليلي حفظه الله لهذا الكتاب هذا الوصف الرائع البليغ حيث قال: “بأن الشيخ المنذري رحمه الله فقيد العلم والعمل والبر والإحسان والمكارم والأخلاق. كان عصامياً في نشأته، مثالاً في طموحه، يجسد ما في عظماء الرجال من مكارم الخصال وعظائم الخلال، وكان مثالاً للسماحة والتسامح وحسن الرعاية للقريب البعيد،
كما كان جامعاً بين الفقه والأدب، والأصالة والمعاصرة، فلم يكن من الجامدين و لا من المتميعين، وإنما كان كما يجب أن يكون المسلم في الانفتاح على النافع من الجديد والمحافظة على الثمين من التليد، فأمسك بحبل الخير من طرفيه ومضى صعداً إلى المكارم لا يثنيه عذل عاذل”. وبهذا الوصف من علامة العصر الشيخ الخليلي حفظه الله الذي لا يدانيه وصف واصف مهما أوتي من جوامع الكلم وبلاغة البيان، وهناك الكثير ممن تأثروا بتلك السيرة الطيبة، فبعضهم عبر بكلمات عما تكنه صدورهم في الأيام الأولى لرحيل الشيخ ومن هؤلاء معالي الدكتور يحيى بن محفوظ المنذري الذي قال في كلمته: ( فضيلة الشيخ المغفور له بإذن الله ناصر بن راشد المنذري هو أحد أعلام عمان المشهورين في القضاء والفقه والأدب، وقد عرف عنه رحمه الله غزارة علمه وسمو أخلاقه وتواضعه الجم، ونزاهته في الأحكام خلال فترة عمله وانشغاله بها التي فاقت الأربعين عاماً .. وخلال معرفتي عن قرب بالشيخ الراحل لمست فيه تلك الصورة المشرقة التي عليها العماني التي كثيراً ما قرأنا لها وسمعنا عنها).
ومن منافع أعمال الشيخ ناصر الجليلة عندما كان قاضياً بولاية المصنعة، كان فاتحاً مجالاً للتعليم في بيته بعد ما تنتهى أعمال القضاء اليومية، وذلك لكسب الثواب والأجر من الله، ورغبته فى تكوين جيل يحمل أمانة العلم الشرعي، وهذا مما نال استحسان كثير من الفقهاء والمشايخ في تلك الولاية وخارجها؛ فلذا تهافت إليه الكثير من طلاب العلم ونهلوا من معين علمه في علوم الفقه والتجويد والعلوم الشرعية الأخرى، فلا غرو أن نجد منهم من تولى منصب القضاء، ومنهم من توجه لمهنة التعليم وغيرها من الوظائف الحكومية، كذلك لفضيلة الشيخ ناصر رسائل تربوية تعليمية وتهذيبية مهمة واجب أن يقراها كل أب على أولاده لما لها من الحث على التربية الصالحة، وتوجيهات وتعليمات راقية صاغها بأسلوب أدبي بليغ،
ومن الملفت بأن أغلب مخاطباته لأبنائه كانت كلها بذات البعد الأخلاقي الرفيع، ومن ذلك كمثال” إلى جناب الأحبة الكرام العزاز الأوفياء”، فبهذه النظرة الثاقبة كان يخاطب أولاده عندما كان في غيابه القسري عنهم، ومن خلالها كانت طمأنينة نفوس الأولاد والأسرة عليه وعلى صحته، ومن تابع تلك الرسائل التي بها الكثير من المعاني السامية، وكان رحمه الله كثير التفاؤل حيث يطمئن أولاده وأسرته كافة في رسائله تلك بأن المستقبل سيكون أفضل حالاً.
وهناك كانت في سيرة هذا الشيخ الجليل الكثير من الكتابات العلمية والحوارات الأخوية والقصائد الشعرية التي تعبر عن شاعرية دفاقة بالمشاعر النبيلة، بالاضافة إلى نماذج من أحكامه التي تحرى فيها الإنصاف والعدل بين المتخاصمين.
وهناك الكثير والكثير من سيرة حياة وأعمال فضيلة الشيخ القاضي ناصر بن راشد المنذري طيب الله ثراه، وها هم أبناءه الكرام الخلف الصالح متمسكين ومحافظين بهدي تلك السيرة الطيبة، جزاهم الله الخير والثواب، ولهم بصمات وما زالت تنهل من معين هذا المقام العلي لوالدهم عليه رحمة الله.
فلهذا كانت لي هذه السطور البسيطة القليل بحق الشيخ ناصر وأسرته الكريمة، وعليه التمس العذر لما بدى فيها من التقصير، وعدم الإلمام الوافي بسيرة هذا الشيخ الجليل، أسأل الله عز وجل بأن يغفر له ويسكنه جنات النعيم، ومن في مقامه، وأن يغفر لوالدي الحبيب، وأموات المسلمين أجمعين.