2024
Adsense
أخبار محليةمقالات صحفية

متحف البيت الغربي

أحمد بن سعيد العيسائي

في بلدة عمانية.. لا بل في مدينة حاضرة عامرة بالعلم.. قرية من أقدم القرى في عُمان.. في ولاية الرستاق وفي حارة قصرى يقع البيت الغربي؛ بيت الشيخ العلامة راشد بن سيف بن سالم اللمكي (رحمه الله تعالى)، في هذا البيت الذي ورثه أبوها عن جدها، وُلِدتْ الفاضلة زكية اللمكية في فترة السبعينيات بداية عصر النهضة، تربّت في بيت علم ودين، في أحضان العراقة وبين جنبات الأصالة، ثم تزوجت وانتقلت إلى بلدة أخرى، رُزِقَتْ من الأولاد والبنين، ثم شاء القدر أن تتوقف حياتها الزوجية بوفاة زوجها وسندها، فقررت بعد برهة أن تعود هي وأبنائها للعيش في ولاية الرستاق، وبعد رحلة طويلة من حياتها جاءتها رؤيا في المنام، رأت بيت أبيها القديم وقد عاد كما كان، رأته مفتوحاً من جديد، وقد فُرِشَتْ أرضيته بالبسط والسميم، كما كان يوم أن كانت صغيرة، تكرر الحلم عدة ليالٍ، وفي كل مرة لم تجد زكية اللمكية أي تفسير له، وفي ذات ليلة رأت والدها المتوفى في المنام وقد جاء إليها يساعدها في إعادة هيكلة جدران البيت الغربي، الذي أمسى متهالكاً جداً؛ لأنه بقي مهجوراً لسنوات عديدة. استيقظت على الحلم الذي بلغ بعقلها مبلغاً، فتلك الرؤى لم تكن من فراغ.. ماذا عساه أن يكون ؟.. هل هو استشراف للمستقبل؟ أم هو تزاور الأرواح في المنام؟.. ولماذا أفتح بيتاً مضى عليه منذ أن أقفل (25) عاماً؟.
لم تمضِ الساعات حتى انتفضت زكية من حلمها، وذهبت بكل عزيمة ونشاط إلى حارة قصرى القديمة، حيث يقع البيت الغربي، ووصلت إليه بصعوبة، فالسكة المؤدية إليه مليئة بالمخلفات، بعد أن هجر أغلب السكان للحارة، ولكنها بإرادة وإصرار، ستطاعت اجتياز العقبات، ووصلت إلى البيت القديم، ولكنها شاهدت الأبواب الخشبية مغلقة ومتهالكة، وبالكاد يمكن فتحها، وجذوع الأسقف معظمها متساقطة، والأوساخ والأتربة تملأ المكان، فعادت أدراجها إلى الوراء، فتعجب لأمرها الجيران والأهالي الذين ما زالوا يعيشون في الحارة القديمة بالقرب من البيت الغربي، وبدأ الناس يسألونها.. ماذا تفعلين يا زكية ، ماذا دهاكِ؟. أجابتهم بدون تردد.. أريد أن أعيد ترميم البيت الغربي منزل أبي وجدي وأعيد صلابة جدرانه، فكانت أغلب الأصوات محبطة، فالأمر صعب مع بيت قد اندثر بعد كل هذه السنين، ولكن بطلة قصتنا كانت مصرةً على تحقيق طلب أبيها، فبحثت عن العمال وبدأت في تنظيف الحجرات التي تقع في واجهة المنزل، واستطاع العمال إخراج جذوع النخيل المتساقطة من السقف، ثم أحضرت عمالاً آخرين ليقوموا بإصلاح الجدران المهترئة والمتشققة بمساعدة الجيران، ثم أمرت بتسقيف الغرف بنفس الطريقة القديمة، وأنا وأنتم نعلم أنه ليس بالعمل السهل، ولكنها كانت امرأةً ذات عزيمة وقادة، فاستطاعت تحقيق هدفها، واستكملت تنظيف بعض الغرف ومرافق البيت بجهودها الذاتية.
وذات يوم، قررت زكية أن تقوم بتجميع أهلها وأصدقائها وجيران البيت الغربي؛ فلبوا دعوتها لحضور حفل إعادة افتتاحه، فحضرت العديد من النسوة، وتجولن في غرف المنزل وكلهن إعجاب بهذا العمل الرائع، ولفت انتباه زكية بأن جميع النساء اللاتي حضرنَ قد رفعنَ أيديهنَ إلى الله تعالى بالدعاء أن يوفقها ويغفر لأهلها، ويرزقها الرزق الحسن.
خلال لقائي بالفاضله زكية اللمكية صاحبة متحف البيت الغربي أثناء زيارته. قالت لي: هناك شعور يختال بعض الزائرين منذ أن تطأ أقدامهم عتبات البيت الغربي، شعور يتسم بالطمأنينة والخشوع والرغبة في قراءة القرآن، والصلاة والدعاء في غرفة مجلس العلم، ولِمَ لا وهو بيت علم ودين.
استمرت الفاضلة زكية اللمكية في تكملة صيانة وتنظيف البيت القديم لتعيد افتتاح غرف البيت واحدةً تلو الأخرى، وتعيد إليها محتوياتها، فهذا المجلس وقد زُيَّنَ لاستقبال الضيوف، وعلقت على جدرانه لوحات التكريم ووضعت دروع الإهداءات، وهذه غرفة العلم وفيها من الكتب والمصاحف ما يكفي لنيله، وقد زينت روازينه بالفوانيس (الفنارات) وأجهزة المذياع القديمة، والعديد من اللوحات التذكارية المعبرة، أحضرت أجهزة التلفزيون القديمة ومصابيح الإنارة ووضعتها في أرجاء الغرف ليراها الزائرون، ثم انتقلت لغرف البيت وأثثت غرف العائلة بأثاث قديم، فقد فرشت الغرف بنفس نمط الفراش السائد في ذلك الزمان، وعلقت على الغدان الكنابل والمناسيل القديمة، وبعض النماذج من الأزياء النسائية.
أكملت تجوالي في أرجاء البيت الغربي لأدخل غرفة ثانية ولأشاهد فيها مثل ما شاهدت وأكثر وأجمل، ثم انتقلت إلى غرف الخدمات، المطبخ وملحقاته، وقد وضعت فيها الأواني القديمة والأباريق والقدور والملاعق، ثم انتقلت إلى مخزن أدوات الزراعة والفلاحة، فرأيت المساحي والمزامي والقفران وأدوات العناية بالنخيل وغيرها الكثير من احتياجات ورموز الزمن الماضي، حتى أنها لم تترك غرضاً قديماً إلا وقد وضعته في البيت، حتى غدى مزاراً ومتحفاً رائعاً.
لقد كان البيت الغربي بحارة قصرى في الزمن الماضي يستقبل الزوار وطلبة العلم ليأخذوه من مصدره، بل ويمضون أياماً وليالٍ فيه، حتى تخرج منه قرابة خمسون إماماً وعالماً، وبهذا يكون البيت الغربي مدرسة، بل كلية في العلوم الشرعية بمقاييس هذا الزمان، فإذا علمنا ذلك فحريٌّ بنا أن نعلم أن أصحابه كانوا أصحاب كرم وشرف لا ينازعه عليهم أحد، فأبواب البيت الغربي تبقى مفتوحة للزائرين، والتمر والقهوة محضرة للضيوف، فلا عجب إن قلت أنه بيت علم وكرم.
والآن وبفضل جهود وعزيمة هذه المرأة العظيمة، هذه المرأة المتميزة بحبها للتراث وحنينها للزمن الماضي، أعاد هذا الصرح لمجده ليكون متحفاً ومزاراً للقاصي والداني، يخبر عن قصته للأحفاد حكاية كبيرة، قد لا تكفي هذه الصفحات لألخصها لكم في كلمات، أحاول أن أنمقها لتصل إلى ناظريكم.
مدة الساعتين التي قضيتها وأنا أتجول في متحف البيت الغربي، أخذتني الأفكار لأتجول في أعماق تاريخنا العماني العريق وكيف كان البيت العماني، وكيف كان بيت العلم (المدرسة) بيتاً يتلى فيه القرآن الكريم آناء الليل وأطراف النهار، ويلقن فيها العلم لطلابه والباحثين عنهُ، والقادمين من أجله من مختلف الولايات والقرى العمانية، يتلقونه صباح ومساء.. أخذتني الأفكار لأتخيل تلك الحضارة التي ساسها العمانيون، كيف لو لم تكن عمان ولادة العلماء وباعثة التجار ورسل السلام ؟.
حتماً لن تكون سوى قرى زراعية بسيطة، ليس لها مكان في الكون، ولكنها عزيمة الإنسان العماني الأصيل أبت إلا أن تخرج لنا العلماء والأئمة، أبت إلا أن تكون عمان صاحبة حضارة قديمة قدم التاريخ، ودولة راسخة أمتدت علاقاتها في الشرق والغرب، وكانت موانئها محطات تجارية، أبحر منها التجار لينقلوا للعالم سماحة الدين الإسلامي ويعلموا الناس مبادئه، فدخل الناس من خلالهم في الإسلام طواعية.
تحية احترام وتقدير أبعثها لشخص هذه المرأة المتميزة، عرفاناً بعملها الجبار وتشجيعاً لها للاستمرار، تلك المرأة التي أحيت ماضٍ قارب على الاندثار، وأنشأت متحفاً متميزاً وجعلته مزاراً لأجيال اليوم وناشئة الغد لتخبرهم أننا كنا أمة مجد وعلم وحضارة.

لغات أخرى – Translate

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights