رغم السفر والترحال لا تزالُ العَراقي مُلهمتة الأولى
كتبت: آمنة مهنا المزروعي
كثرة السفر والترحال لم تغير من تعلقه وحبه لقريته فلاتزال في نظره كالحسناء التي لا يأفل حسنها مهما طال الزمن ومهما أصابها من محن..إنه ابن العراقي الوفي المخلص الذي تغرب وعاد كما هو.. مجردٌ من أي فكرةٍ دخيلة مجرد من كل شيء لم يحمل من غربته سوى الخيالات وصور جمالية وبعض الحنين !.
الغربة لم تستطع أن تنسيه نخيل قريته وزرقة سمائها ،إنه لا يكف عن التغني بحصونها وقلاعها وبيوتها الطينية التي يفوح منها عبق الماضي إنك ستستشعر ذلك في مؤلفاته التي تنقلك من مكانك بخفة ورقة إلى الحارات القديمة ودهاليزها الضيقة ورائحة الياس التي تفوح من النساء مروراً بسوق القرية الصاخب الذي تتعالى فيه أصوات الباعة. تمكن ببراعة قلمه أن يصف للقارئ تلك الحياة العتيقة وما جرى فيها من مظاهر وأحداث وأن ينقلها له كما لو كانت صورةً سينمائية واضحة المعالم.
حينما قررت أن أجري حوارا صحفيا معه تزاحمت الأسئلة في عقلي وأصبحت غير قادرة على تحديد وجهتي فالكتب التي ألفها تحتاج أن تعطى حقها في السؤال والإستفهام كلٌ على حدة وخشيت بأن الوقت لا يسعفني ..
توجهت لإجراء الحوار وقد حياني بكل سرور وكان يتضحُ من معالم وجهه أنه استعدَ جيدا للحوار، وهذا ما زاد قلقي فمهمة محاورة الكاتب والقاص خليفة العبري ليس بالسهلة اليسيرة وأعني بذلك أنه مثقف في مجاله قارئٌ ومطلعٌ جيد حاضر القريحة وله حضورٌ مميز.
استفتحتُ الحوار بسؤالي له:
ما الذي يفتح شهيتك للكتابة؟ وهل هناك طقسٌ معين يدفعك للكتابة؟
في الواقع الكتابة تتولد في الحركة بمعنى أن دفق الكتابة يأتي في الرحلة/ السفر، نادراً ما أكتب في لحضة السكون.
العودة بالذاكرة
ماهو أول نص شرعت في كتابته؟ وماهو موضوعه؟
رد متنهدا وكأنه يستحضر الحدث مع ابتسامة سريعة قائلا: أول نص كتبته كان في حصة التعبير وتخونني الذاكرة في تحديد مرحلتي الدراسية فربما كنت في الصف السابع أم الثامن. موضوع التعبير كان نص قصصي عن عامل البلدية في القرية وأعترف بأن ما كتبته لا يرقى لإسلوب القصة، ولكنه كبداية في تلك المرحلة كان مدهشا لدرجة أن معلم المادة لم يصدق بأني أنا من قام بالكتابة إلا بعد أن وجد تلك الاخطاء اللغوية تتوزع بين السطور التي كتبتها. هناك أيضا نص آخر كتبته وأنا على مقاعد الدراسة في المرحلة العدادية وهو نص مسرحي متكامل -يضحك مستذكرا- المعلم المسؤول عن المسرح لم يلقي له وزنا ولم يقرأه حتى.
بالرجوع قليلا لأيام كامبريج والدراسة فيها، ما الذي أضافته الغربة إليك في حياتك؟
رد -سريعا وكأنه كان يتنبأ بهذا السؤال- الغربة منحى حياة أخرى وناس جدد يمتلكون فكر مختلف تماما عما تملك. لذلك وجب على كل من رحل إلى مكان أخر غير الذي نشأ فيه أن ينفتح على تلك الثقافة ويعايشها وأن لا ينغلق ويقوقع نفسه بثقافته هو.
الليل هل هو بحق مُهلم؟ أم أن الشعراء يستخدمون لفظتها لدلالات معينة؟
الليل ملهم بالفعل، فالملكة الإبداعية بشكل عام تبدأ في الليل، فهو السكون والظلام والقمر والنجوم وكلها تحفز الكاتب للكتابة. فالليل ليس تجربة حديثة فالشعراء في الجاهلية أيضا إستلهموا به وتغنوا به –صمت ثم أكمل- أما عن النهار فهو الحركة والتجدد والعمل.
لماذا اتجهت لكتابة النص القصصي وذلك نجده ماثلا في مؤلفاتك مواسم الغربة وفنجان عند سوق مطرح؟
أنا أتجه نحو ميولي وأجد نفسي في كتابة القصص أكثر من الشعر ، ففي الواقع نشرت لي عدد من الأشعارفي بداياتي غير أنني شعرت حينما تمعنت فيها بأنني شاعر فاشل –وأسهب قائلا- وجدت أن القصة تمنحني نفس أكبر في التعبيرعن خلجات النفس فمجال القصة واسع وفضفاض وأستطيع أن أخذ مساحتي كاملة في البوح بعكس القوالب الشعرية التي تكون مقيدة بقوانين تحد من إنطلاقتي.
الواقع الأدبي
ما رأيك في واقع الكتابة في العالم العربي..أعني من حيث مستواها؟
حقيقة مستوى الكتابة اليوم في العالم العربي متطور-صمتَ ثم أكمل- نعم متطوروهذا التطور نتج من الإستفادة من المترجمات الغربية التي وصلت إلينا واطلع العالم عليها فأعتقد بأنها هيه التي صقلت الكتابة وطورتها، كذلك انفتاح الكاتب العربي على كتابات أخرى فهيه كفيلة بإخراجة من بوتقة الكتابات الكلاسيكية، إظافة إلى وسائل التواصل الإجتماعي التي ساهمت في صقل الكاتب وتطور اسلوبه وجعلته لا يقوم بتناسخ الأصوات. فاليوم لدينا الكثير من الأسماء البارزة المستقلة بإسلوبها لا تلجأ إلى النسخ كما أشرت (تناسخ الأصوات) وبعضها وصل للعالمية.
برأيك هل يعاني الأدب العماني اليوم من مشكلات؟
أعتقد بأن ما حدث من تطور في العالم العربي للكتابة حدث في عمان كذلك، عمان عرفت الأدب القصصي والسردي عموما في عهد حديث وذلك بسبب تأخر وصول التعليم . لاحظت من خلال ما قرأت أن الكتابة السردية هي كتابة تقليدية لكن الوضع اليوم اختلف أي في الألفية الجديدة وذلك الإختلاف هونتاج السفر والإطلاع والتقدم والتعليم.
وأظاف قائلا: لكن المشكلة الحقيقية التي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا هي تناسخ الأصوات، وأعتقد بأنه يجب –كررها مرتين- أن يكون هناك إطار يمنح كل كاتب خصوصية الأدبية، فأنا مثلا منذ بدأت حقيقةً أشتغلُ على ثيمة المكان حتى عناوين قصصي تحتفي بالمكان وخير مثال على ما قلت كتابي القصصي مواسم الغربة وفنجان عند سوق مطرح وعلى الباب طارق وكذلك يوم على تخوم الربع الخالي كلها تحتفي بالمحلية.
رغم سفري وترحالي لبلدان كثيرة إلا أنني لازلت عالقا هنا عالق بمحليتي أردتُ في الواقع أن أتخلص منها لكنني لا زلت أجد روحي ونفسي في هذا المجتمع فأنا أجد بأن بيئتي ثرية ووجب عليَ أن أعبر عنها ليتسنى للعالم الخارجي معرفتها، فأعتقد بأنه من الخطأ أن تعبر عن موقع أو أن تتغنى بمكان لم تزره وهذا ما نراه من الشبان والشابات الجدد –أكمل بنبرة دهشة واستفهام- كوصفهم للأنهار في أوروبا وهم لم يخرجوا من قراهم وهذا دليل على عدم تشربهم لتجربة ومعايشتهم للواقع. فأنا مثلا عشتُ في القرية وكتبت مواسم الغربة انتقلتُ للعيش في العاصمة مسقط وعشت فيها سنوات طويلة وكتبت فنجان عند سوق مطرح وقد شعرت حينها بأنني نزفتُ القرية، وكأن الذي كتبته لا يزال نقطة في بحر. -وأستطرد في قوله – فأنا ابن القرية الذي وجد الثراء المعيشي وجو القرب الصاخب غير المنغلق على نفسه مثل ما يحدث الآن فمواقع التواصل الإجتماعي ساهمت بخلق عالم إفتراضي منغلق لكل شخص.
هل تعتقد بأن حظر بعض الكتب العمانية من معرض الكتاب يؤثر على مستقبل القارئ العماني؟ ويقمع الكاتب؟
بنبرة استنكار قال: أنا أعتقد بأن مسألة مصادرة الكتب وحظرها هي أمر غير حصيف فاليوم أستطيع بنقرة زر أن أحصل على الكتاب الذي أرغب به وليس لهذا أي معنى-كررها مرتين- وأقول مرة أخرى بأن مصادرة الكتب دافع للبحث عنه فكما يقال كل ممنوع مرغوب.
ومسألة قمع الكاتب العماني لا أؤمن بها فالكاتب دفاق بما في رأسه وإذا اثناه الحظر عما رغِبَ في قوله فأسطيع القول بأنه ليس كاتبا، فلو افترضنا أن كتابه صُدِرَ في عمان سيكون متاحا في الخارج فالأمر ليس صعبا.
أختم معك بسؤالي عن أهم الأدوار التي تقدمها الجمعية العمانية للأدباء؟
مرت الجمعية بمراحل وإدارات مختلفة بعضها نجح وقدم الكثير والآخر فشل. قامت الجمعية في فترات سابقة بنشر كتب مجانية وذلك لنشر ثقافة القراءة في المجتمع العماني، كذلك كرمت الرواد من الأجيال السابقة ولكن حقيقةً لا يزال يُنتظر منها الكثير. فهناك عدد من الأدوار والتي يُفترض –كررها مرتين- أن تقدمها الجمعية كدعم موهبة الكاتب العماني واصداره ودعم تواجده في المحافل والمنتديات الداخلية والخارجية والعمل على تثقيف المجتمع من نواحي فكرية مختلفة .
وبعد أن شكرته على إجراء الحوار وهممت بالخروج إستوقفني سائلا: هل أنتي هي آمنة التي نشرت في الشهر الماضي ما تعرضت له من عملية سطو على خبرها في أحد الجرائد المحلية؟
أكدتُ له صحة ما يقول وأخذنا الحديث حول السياسات التحريرية والإنتحالات، وقبل أن أغادر قدم لي نسختين من كتاباته مواسم الغربة ويوم على تخوم الربع الخالي تقديرا وعرفانا منه.
